جوقة المنافقين في موائد الكلام الرخيص
كان سارتر يؤكد أن التعبير الحقيقي عن الحرية إنما يكمن في قول لا في وجه الاستبداد والطغيان و أن فرنسا لم تكن يوما حرة مثل ما كانت وهي تحت الاحتلال الألماني. لأن الثوار الحقيقين كانوا يقاومون ذاك الاحتلال مقاومة غاضبة رافضة..تذكرت قولة سارتر هذه وأنا أتابع اليوم القنوات التونسية وارصد ما يقال فيها من الصباح إلى المساء في إسهال منقطع النظير .فأتردد بين الحزن والغضب والرغبة في الضحك الذي يشبه البكاء . أجد مثالا صارخا للزيف..أرى الوجوه ذاتها التي كنت أراها قبل سقوط الطاغية ، تلك التي كانت تتمرغ على أعتابه وتجيد لغة التزلف او في أحسن الحالات تصمت على جرائمه وقد لبست ثوبا آخر. أرى أناسا كانوا" يخلصون" أيما إخلاص في تمجيد السلطان الجائر و تقديس"صانع التغيير" وتقديم التهاني له ولعصابته في المناسبات وفي غير المناسبات والتّستّر على جرائم وزارة الاتّصال التي كانت تحجب كل حقيقة يمكن أن تزعزع صورة القديس و حاشيته الفاضلة..أرى هذه الوجوه اليوم تزعم ما لم يكن فيها وما لن يكون..تتكلم باسم الثورة..ويصبح الواحد منها ضحية لما كان يقبله برضى تام وجبن فاحش..هذا فتى حنبعل المدلل عبدالرزاق الشابي .يتكلم عن الطغيان و دموع كاذبة في عينيه لا ادري من أين أتى بها. ها هو يكشف المستور وهو يضع قناع الإنسان الفاضل والحقوقي العادل ، يتحدث عن الحصص التي منع من بثها..وعن المعتمد الذي طالبه بتكذيب بعض الأشخاص..وهو بطبيعة الحال لم يكن من الرافضين..فقد كذّب من كان يعلم في قرارة نفسه انه صادق. ولو لم يسقط النظام لما كان اعترف بما فعل ولبقيت هذه الجريمة متخفية مثل جرائم أخرى كثيرة..وهذه عفاف الغربي..كانت ليلة رأس السنة الماضية في فستانها ذي اللون البنفسجي الأنيق الذي أصبح رمزا من رموز التحول المبارك تمسك ورقة صغيرة تتلو منها تهنئة حارّة مطوّلة لرئيس الجمهورية وزوجته بالعام الجديد الذي رجت أن يكون مباركا..لكن هذا العام كان يحمل شؤما للعائلة الحاكمة التي خرجت علينا من سقط المتاع. إنه بمجرّد فرار الرّئيس أطلت علينا عفاف الغربي و مثيلاتها بابتسامة الانتصار والارتياح وهي تهنّئ الشعب بسقوط الطّاغية..كأنها صارت من شباب مدينة سيدي بوزيد الذي احترق واحد منهم ومات آخرون وهم يصرخون بشعار الثورة وهي تتلمس طريقها إلى قصر قرطاج" التشغيل استحقاق يا عصابة السرّاق" ..كلاّ لم يكن ذلك سوى تجسيد للزّيف و تعبير عن قدرة فائقة على التلوّن مع جميع الأحوال مهما كانت. هل ننسى في هذا الصدد أيضا مثقفين دخلوا جحورهم سنوات الجمر وفضلوا الصمت على الكلام الذي لا يتقنه غير عشاق الحرية الحقيقيين. ما كان لهم رأي حول فساد المفسدين. ما استمعنا يوما إلى أصواتهم.. ما قرأنا لهم حرفا حين كان الكلام بثمن غال أما اليوم فقد رخص الكلام حتى صار كالبضاعة الفاسدة يسومها المفلسون في الزمن الرخيص. هل ننسى أولئك الذين كانوا يسبون الشارع ويدعون المثقف في تعال لا تعالي فيه إلى الاحتماء ببرجه العاجي ويعتبرون محنة القضاة الشرعيين مثلا قضية شخصية على شاكلة "المفكرة الحرة "سلوى الشرفي التي تحولت بقدرة قادر إلى مدافع شرس عن استقلال القضاء والى صحفية جاءتنا في لقاء صحفي على شاشة تلفزة هجرت سبعتها يوم بدأ السفاح يبحث لنفسه عن بلد يموت فيه ذليلا لتتحول إلى قناة وطنية. جاءتنا الأستاذة لتجمل صورة الوزير الأول الذي يطالب الشعب اليوم بإسقاطه والذي لم يجد من طريقة للدفاع عن نفسه غير بضعة دموع وبعض كلمات مضمونها انه كان خائفا وانه كان لا يعلم ...وهي كلمات ما أشبهها بما قاله لنا المستبد الهارب وهو في النزع الأخير حين ادعى وهو يتهاوى انه هو أيضا كان لا يعلم ما يجري حوله وانه قد غرر به . لماذا لم تسأل الصحافية المحترفة جدا الوزير الأول عن رأي المجلس الدستوري الذي اعتبر أن تقلده يوم 14 جانفي2011 منصب الرئيس المؤقت للبلاد كان انتحالا منه لصفة ليست له لأنه لا يملك أي تفويض في ذلك من الرئيس الفار. لماذا لم تسأله عن السر في الانتقال بين يوم وليلة من الفصل 56 من الدستور إلى الفصل 57. لماذا لم تسأله أيضا عن المكالمة التليفونية التي أجراها مع الطاغية وهو في منفاه وعن سبب هذه المكالمة التي أساءت إلى كل تونسي. هنيئا مريئا لمن لا يتقنون الكلام إلا مع الجوقة الصاخبة وان ادعوا العكس. ...ربما إذا عاد العسف غدا وهو أمر محتمل عندي فسيعودون مرة أخرى إلى جحورهم في انتظار ثورة أخرى يصنعها من لم يكن لهم يوما يد في جرائم الكبار ولا نصيب في موائد المقتسمين للحم البقرة التي أكلها السكين ..أما الذين كانوا يعارضون الفساد معارضة صادقة دون خوف ولا تزلف..والذين كانوا يعانون من الشقاء الفكري والنفسي ما لم يعرفه غيرهم فقد غابت وجوههم وأسماؤهم إلا قليلا. عجبا للحياة كيف تختار دائما أن تنتصر الجماعة الأنيقة الكاذبة التي تبرز بروزا لتركب على حدث لم يكن لها فيه أي دور.. عجبا ما كانت هذه الجماعة تجد ولو ذرة من الجرأة لتعبر عن آرائها لو استمر الطغيان..لأنها جماعات بلا رأي.ولا ذاكرة..ولو كانت لها ذاكرة لاستحت من التنكّر لأقوالها بمجرّد تغيّر الظّروف..ولو كان لها رأي لكان صامدا لا ينثني حين كان الصمود يرسل بفرسانه إلى المنافي أو السجون أو يعرضهم إلى بطش السلطان وقد طغى وتجبر . كنا نود أن ننسى كل ما قالوه وما فعلوه لو ساعدونا على ذلك . كنا سنغفر لهم قليلا أو كثيرا تواطؤهم إذ كلنا أو جلّنا تورطنا على الأقل و بشكل أو بآخر في الصمت الآثم ..إن ما يجب أن نعي به اليوم هو أن هذه الوجوه التي تطلّ علينا اليوم لم تكن يوما صادقة..لقد كانت متواطئة مع الفساد يوم كان الفساد سائدا منتصرا..ولن تنطلي حيلها علينا..لم يكن هؤلاء الأشخاص يوما جديرين بمهنة الإعلام..لأنهم فرطوا في ضمائرهم و ما تفرضه من مصداقية و أصالة..ولأنهم باتوا يذكروننا اليوم بأمرين..أولهما النظام الاستبدادي الذي كانوا يدافعون عنه أو يغمضون عيونهم ضعيفة البصر عن ويلاته..وثانيهما النفاق الذي يلمع جليّا في وجوهم المزيفة ، إذ ما إن انتصرت ثورة الشعب حتى ركبوا الموجة وسارعوا لأخذ نصيبهم من الغنيمة وحصتهم من الجثة الهامدة كالعقبان الجارحة تناديها رائحة الدم ويتحرك فيها الجوع المتأصل فيها ..إن المشهد الإعلامي التونسي يستحي من هؤلاء وأمثالهم. فكفى الإعلام ما عاناه من عسف طوال سنوات الجمر الذي احترق به من ساهموا ولو قليلا في إشعال نار الثورة .
عبدالسلام الككلي