الصباح - سعيدة بوهلال - للمرة الثانية على التوالي جلس الأستاذ محمد الكيلاني على منبر الذاكرة الوطنية بمؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات وتحدث عن تاريخ اليسار التونسي خلال الفترة الممتدة من منتصف السبعينات إلى منتصف الثمانيات وتحديدا عن الإيقافات التي تعرضت لها عناصر تجمع الدراسات والعمل الاشتراكي التونسي المعروف بـ (حركة آفاق)
وعن ألوان التعذيب التي مورست عليهم وظروف محاكماتهم وسجنهم ومآل الحركة بعد إطلاق سراحهم. كما قدّم معطيات عن النساء المناضلات في هذا التنظيم السري.
وبين الكيلاني أنه على إثر إيقاف عدد كبير من عناصر التنظيم سنة 1968 عادت المواجهات مع السلطة مما أدى إلى حملة إيقافات ثانية بسبب توزيع مناشير على عمال المناجم واستهدفت عددا كبيرا من عناصر تجمع الدراسات.
وقال: "تعرضنا أثناء الإيقاف إلى ضغوطات شديدة تجرد المرء من كل قوى المقاومة وغالبا ما يصرح الموقوفون وهم تحت طائلة تعذيب الأمن بأقوال تتنافى مع الحقيقة ويقدمون اعترافات بارتكابهم أعمالا لم يرتكبوها قط.
وأضاف : لعل أشد ما كان يؤلم الموقوفين هو إحساسهم بثقل المسؤولية لأن النصوص الإيديولوجية المؤطرة لذهنية اليساريين تقوم على عدم التصريح بأي كلمة للأمن مهما كانت الظروف وكل من يفعل يعتبر خائنا وفاقدا للشرف".
ونظرا لأن العديد من الحراس الذين كلفوا بمراقبتنا أثناء الإيقاف كانوا حديثي الالتحاق بالوظيفة فقد ساعدونا على نقل الرسائل بيننا وهي رسائل وزعنا عبرها الأدوار واتفقنا على الأقوال التي سيدلي بها كل منا خلال المحاكمة التي تمت في محكمة أمن الدولة وهو ما حصل.. إذ كانت أسئلة القاضي في واد وأجوبتنا في واد آخر.. كأن يسأل أحدنا عن علاقته بتجمع الدراسات فيجيبه بمداخلة حماسية ينتقد فيها النظام والسلطة القضائية.. وقد اتفقنا على قول هذا لاعتقادنا أن الأحكام التي ستصدرها المحكمة ضدنا جاهزة ومن الأفضل عدم إضاعة الفرصة للتعبير إلى آخر لحظة عن رفضنا لما هو سائد".
وكانت أحكام المورطين في إنشاء التنظيم ثقيلة جدا وتراوحت بقية العقوبات بين 4 أشهر وتسع سنوات سجنا وتمثلت التهم في التآمر على أمن الدولة وترويج أخبار زائفة والانتماء إلى منظمة غير معترف بها.
سنوات السجن
عند حديثه عن السنوات التي أمضاها بالسجن قال محمد الكيلاني إن عناصر التنظيم الذين صدرت ضدهم أحكام بالسجن طالبوا منذ اللحظات الأولى من دخلوهم بأن تقع معاملتهم في إطار الاحترام ونفذوا مباشرة إضراب جوع دام 23 يوما لإجبار إدارته على تجميعهم في زنزانة واحدة. وكان عددهم زهاء الأربعين.
وبعد هذا الإضراب سمحت لهم إدارة السجن بقبول الزوار والتحادث معهم مباشرة وتلقّي الكتب التي يرغبون في مطالعتها ومكنتهم من جهاز تلفزيون وجمّعتهم في زنزانة كبيرة بسجن برج الرومي بعد أن كانوا في عدة سجون أخرى ولكن عند التفطن لمحاولة بعضهم تحطيم جدار السجن والفرار منه تم حبسهم في خندق ومكثوا هناك خمسة أيام ثم أعيدوا إلى الزنزانة وسرعان ما تحسنت ظروف إقامتهم.
وقال: "كنا في الزنزانة نتناقش طويلا حول مختلف القضايا السياسية وإنني لم أعش في حياتي لحظات صفاء كالتي عشتها في السجن مع رفاقي.. رفاق اختلف معهم في الرأي لكنني أحبهم وقضيت معهم في السجن أحلى سنوات العمر ولعل مرد هذا الإحساس هو أن اليسار تربى منذ نشأته على القيم والمبادئ".
تحدث الكيلاني عن علاقات سجناء حركة آفاق ببقية مساجين برج الرومي وقال "إنها طيبة جدا حتى أننا نفذنا إضرابا في السجن تضامنا معهم فتحسنت ظروفهم وطعامهم وكان مدير السجن يستعين بنا من حين إلى آخر لتسوية الخلافات بين السجناء لأنه يعرف أنهم يحترموننا كثيرا..
وأضاف:"بعد سنوات قضيناها في السجن وإثر أحداث قفصة سنة 1981تقرر إطلاق سراحنا وقابلنا وزير الداخلية إدريس قيقة وتم نقلنا إثر ذلك إلى سقانص حيث يوجد بورقيبة واستقبلتنا وسيلة بتواضع كبير وشجعتنا على الدفاع عن أنفسنا ودخلنا على الرئيس ورغم كبر سنه كان مبهرا إلى درجة جعلتنا نشعر بالرهبة. ولم يخل اللقاء معه من الطرافة وعندما سأل أحدنا عن سبب انتمائه إلى التنظيم أجابه قائلا: "إن الفصل الثامن من الدستور.. وقبل أن يتمم الجملة، قاطعه بورقيبة قائلا :على أنا فصل تحكي.. أنا توا باش نعملك فصل آخر ننفيك بيه.. وعندما حدثه آخر عن التعذيب الذي تعرض له في السجن أجابه "ما صار شيء ماو ايربو فيك ياخي إنت ولديك ما ضربوكش احسبهم كي ولديك يربيو فيك.. أنا يا ولدي راهنت عليكم وعلى تعليمكم.. انتم أولادي وكان ما جيتش أنا راكم سارحين بالبقر.. وتجيو توا تقولوا النظام عميل.. أنا عميل للاستعمار؟؟"
وأضاف الكيلاني: "بعد نظره في ملفي رمقني بورقيبة وقال لي تدرس رياضيات فيزياء ورفع بصره فوجد أمامه شابا طويل القامة ضخم البنية فنظر لي قائلا كان يمكن أن تكون إطارا عاليا في الدولة علاش عملت في روحك هكة.. ولما سألني عن رأيي حدثته عن التعذيب الذي تعرضنا له فقال متوترا: "لا مش تعذيب أنا الوحيد إلى تعذبت في ها البلاد".. فأجبته قائلا إنك تعذبت في عهد الاستعمار لكننا نحن تعذبنا في عهد الاستقلال فرمقني غاضبا وقال "تحبو تقتلوني.. أبوكم راجل كبير"..
يساريات بارزات
وبعد هذه المقابلة تم العفو عنا وخرجنا من السجن وتمتعنا بجميع حقوقنا.
وتحدث الكيلاني عن يساريات بارزات دخلن سجن منوبة (قصر الأميرات) على غرار آمال بن عبا وساسية الرويسي وبهيجة الدريدي وعائشة قلوز وعديدات غيرهن تركن بصماتهن في تاريخ اليسار التونسي.
بعد خروجه من السجن لم يبتعد الكيلاني عن السياسة وقال:" بدأنا نفكر في تقييم ما بلغه "العامل التونسي" وكان قد دخل في صراعات بين مجموعات متعددة وانتفت فيه روح التنظيم الجامع وبرزت اختلافات في وجهات النظر بين مجموعات العامل التونسي 77 والعامل التونسي الخط السائد والعامل التونسي الخط الثوري.. وبدأنا نتحسس الطريق إلى إعادة النقاشات وعقدنا ندوة تحاورنا فيها على مدى يومين ثم كونا "حلقة العامل الشيوعي" التي كانت اللبنة الأولى لفكرة تكوين حزب العمال الشيوعي ثم اشتغلنا مدة سنتين أعدنا خلالها بناء تنظيم الشباب والقطاع العمالي وأصدرنا مجلة الشيوعي السرية وانتهينا إلى تأسيس حزب العمال وبعثنا مجلة أطروحات التي لعبت دورا كبيرا في توظيف القضايا الفكرية وبلورتها وقد لقيت رواجا كبيرا.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire