samedi 12 février 2011

يخافون من الثورة وليس عليها (عدنان المنصر، مؤرخ، مواطن حر



لعل من معاني الثورة التونسية أنها أفلتت من دائرة توقع النخب، بغض النظر عن طبيعة هذه النخب. فطيلة أسابيع كان الشعب الهادر يتجاوز الجميع ويحطم سيله المتدفق كل الحواجز والوصايات. نتذكر جميعا تلك الأيام التي كان كل مطلب جديد ترفعه الجماهير يثير تخوفات لدى النخب التي تعودت على التقتير حتى أصبحت في تسلحفها تخير الوقوف في وسط الطريق وتكتم في نفسها أحيانا تمني العودة بعض الخطوات إلى الوراء. في أفضل الحالات كان بعضها يكتفي بالمشاهدة السلبية ويبخل بكلمة أو تعليق أو نص يمكن أن يدفع إلى الأمام ويوضح بعض جوانب من مشهد كان في أذهانها، باستمرار، شديد التعقيد.

هناك حالة اضطراب حقيقي يعيشه وعي الكثير من الناس اليوم في بلادنا، وهو اضطراب يمكن تفهم بعض دواعيه. غير أن التفهم اليوم لا يرقى لمرتبة التبرير، بل لا يعدو أن يكون تفسيرا، أو قل محاولة تفسير، لجزء من حالة شبه عامة في الأوساط التي اعتقدت طيلة الزمن السابق أن الحل والربط بيدها. ليس من السهل أن يتقبل الكثير من هؤلاء وضعهم في المؤخرة أو الوسط وقد تعودوا الزعامة أو خيال الزعامة. حين يعتقد بعض السياسيين اليوم، ونحن نقدر ما قاموا به في الفترة السابقة من دور في فضح تعديات السلطة الديكتاتورية ووقوفهم في وجهها عندما انبطح غيرهم، أنهم أوصياء على مطالب الشعب وأمناء على أحلامه في مجتمع حر منفتح، فإن أفكارا سلبية كثيرة تنتابنا حول وعيهم وصدق التزامهم بما كانوا يقولون دائما أنها إرادة الشعب.

مثل كثير من الناس استمعنا إلى التبريرات التي قدمها البعض للمشاركة في الحكومة المؤقتة قبل تعديل تركيبتها يوم 27 جانفي. ومثل كثير من الناس أيضا لم نشك في نضالية هؤلاء ووطنيتهم، واضعين المسالة في باب اختلاف زوايا النظر لموضوع شائك ومعقد. المسالة تتجاوز الآن في نظرنا مسألة اختلاف في زاوية النظر، وترقى إلى تعرية الثقافة السياسية الاستبدادية التي تسكن هؤلاء. الوصاية هي التربة الأولى التي ينشأ فيها الاستبداد، ذلك أنها في حقيقتها مشروع استبداد لا ينتظر من أجل اكتمال بنيته سوى بعض السلطة. بعد ذلك تتفاعل جملة من المكونات لتجعل السير نحو إعادة بناء النسق الاستبدادي مسالة وقت لا غير.

عندما نتحدث عن وصاية فإننا لا نقصد أنها تأخذ بالضرورة سمة التعالي على الشعب والاستهزاء من مطالبه وأحلامه، وأحيانا من بعض الفوضى التي تنتج عن عمل بدأ غير منظم، وإن كان انعدام التنظم لا يعني انعدام الوعي. في أحيان أخرى تتم الوصاية عبر الشعبوية والنزول بالممارسة والخطاب السياسيين إلى الدرك الأسفل من التهييج. في هذه الحالة الثانية يكون الهدف غالبا هو نفسه، أي ترسيخ نمط من القيادة تدعي النزول إلى الجمهور لتحسن الالتفاف عليه. رغم خطورة هذا المسار فإننا سنركز على نقطة مشتركة بين التوجهين المذكورين، المتعالي والشعبوي، ومحاولة معرفة ما يضمران في العلاقة مع ما يحدث اليوم.

ليس من غريب الصدف أن الديكتاتور المخلوع توجه إلى رمزي التيارين الممثلين في التجديد والديمقراطي التقدمي للبحث عن طوق نجاة من الأزمة التي كان خضمها قد بدأ في إغراقه. هذا طبيعي من وجهة نظر الديكتاتور، ولكن القبول بمد طوق النجاة وتقديم دلائل الشكر والعرفان له هو الذي يبدو غير طبيعي، بل قل إنه كان يبدو غير متوقع، على الأقل من جانب الديمقراطي التقدمي. كان نسق الأحداث يعصف برصانة جميع أولئك الذين تعودوا اقتسام المشهد السياسي الوطني، حيث كان الديكتاتور يعتقد أنه قد دمر كل حصون المناعة في المجتمع، وحيث اعتقد أولئك أنهم الأمناء على الحصن الوحيد الباقي. خطاب الديكتاتور ليلة رحيله كان أكثر وعيا بعمق الأشياء التي تغيرت، وأنه كان يريد التعلق بالقشة الوحيدة الباقية، وهو ما يعني في حد ذاته أن الرحيل كان في دائرة التوقع. في المقابل اعتقد الآخرون أن تلك القشة قادرة على منعه من الغرق، فقدموها له على طبق من ذهب، وأضفوا على خطابه صبغة الصدق، وشرعوا في تحضير أنفسهم للمناصب القادمة. كان غبيا الاعتقاد في أن قشة باستطاعتها إنقاذ جثة بتلك الضخامة، لكن الأغبى اعتقاد من قدمها أنهم ينطقون باسم الشعب الهادر ومطالبه التي لم تكن يوما ما ترمي سوى إلى اقتسام ما يتركه لهم الديكتاتور. الأمر بسيط: فالديكتاتور لم يبق شيئا، ووحدهم الواهمون كانوا يعيشون على فكرة أن النظام مستعد لتقاسم فضاء غير موجود.

مشكل آخر اعترض هؤلاء وقد وردت أسماؤهم في تركيبة لم يستشاروا حول طبيعتها، ولم يفاوضوا في شأن صلاحياتها ومهامها، وهو مشكل تأكد أنهم كانوا واعين به. هل كان يخطر ببالهم أنهم لا يمثلون من الشارع سوى الهامش، وأنهم لن يستطيعوا الوقوف أمام تيار المطالبة بإسقاط الحكومة مهما ظهروا على الشاشات ومهما أعطوا من تصريحات وقد غدوا المدافعين الوحيدين عن حكومة مرفوضة؟ لا يهمنا هنا من الحكومة المذكورة سوى نقد السلوك السياسي للمعارضين السابقين، فقد خصصنا لنقد أدائها بعض المقالات الأخرى، ولم نبخل عنها بذكر بعض حسنات تصرفها عندما كان الأمر يستوجب ذلك. كما لا يهمنا في نقد ذلك السلوك سوى تعرية سعيه، عبر خطاب قد من دبر، إلى إعادة بناء مشروع استبداد نعتقد أن الشعب الذي أنجح هذه الثورة لن يمكنهم من فرصة لترسيخه. في هذا السياق إذا نفهم إصرارهم على إقصاء الأطراف الأخرى الممثلة للمعارضة من المشاركة في حكومة كان يفترض أنها ستبنى على منطق الوحدة الوطنية. فهم يمثلون، في نظرهم، الوحدة الوطنية، رفعت الأقلام وجفت الصحف إذا، ولا داعي إضافي لنكأ الجراح. قطع الجميع حبل تحالفاتهم السابقة إذا، وانطلقوا نحو تقاسم مشروع غنيمة مسمومة، ولبسوا ثوب خطاب كنا نعتقد أنه لا يليق بهم، خطاب استمدت مفرداته وتعبيراته من معجم لا يليق بنا.

"أنجز الشعب الثورة فليعد الآن إلى بيته ولا يغادرنه إلا مضطرا، فالثورة بين أيد أمينة"، ذلك لسان حال أولئك منذ ذلك اليوم. بعد ذلك لم يفتئوا عبر بياناتهم، وإزاء ردود الفعل الشعبية القوية على أخطاء الحكومة، سوى القول أنهم "غرر بهم"، وأنهم أخذوا في "غفلة". لا مشكلة، فكل ابن آدم خطاء، وهم حسب تقديرنا من بني آدم. المشكل في القول أن الشعب لا يفهم ما يفعل، وأن درب الديمقراطية المنشودة لا يزال طويلا، وأنه يلزم لذلك ربان يفهم كل شيء ويعلم ما ظهر وما خفي. المشكل في القول بأن التونسيين لا يعرفون الديمقراطية، وأنه يلزم على الأقل خمسون عاما لتحقيق انتقال ديمقراطي حقيقي. نعم استمعت إلى ذلك: خمسون عاما على أدنى تقدير. حتما، ربما احتجنا إلى أكثر من الخمسين عاما، إذا بقيت نفس النخبة السياسية الناطقة بالحكمة في مكانها، وإذا منحت الفرصة لترسيخ مسار الإقصاء الذي انطلقت فيه.

يستند خطاب "الخمسين" إلى جملة من التقييمات التي لا ترى فيما يحدث اليوم إلا كل ما هو سلبي، ولا تركز إلا على خطر الفوضى والعسكر والإسلاميين. نعم، هناك بعض الفوضى، وهناك من يستغلها لبعض الوقت، ولكن التونسيين أثبتوا أنهم قادرون على التمييز بين الحركة الطيبة والحركة الخبيثة وعلى تعديل البوصلة وتنظيف ما علق بعدستها من شوائب. ينسى هؤلاء في خضم بحثهم عن السلبيات التي تعيق بناء ديمقراطية سليمة أن الثورة التي حدثت كانت أكثر ثورات الإنسانية حضارية ومدنية، وأنهم يتحدثون عن شعب متعلم، وأن القمع الذي دمر في طريقه كل شيء عجز عن تدمير شيء اسمه الوحدة والتضامن والمعرفة بما نريد. ينسى هؤلاء أن تونس قد شهدت أول دستور في العالم العربي، وأنها أول من حرر الرقيق، وأنها أول من أعطى المرأة ما تستحق من كرامة ومساواة، وأنه في يوم 14 جانفي لم يحطم زجاج واجهة واحدة في الشارع الرئيسي للعاصمة، رغم كل غضب نصف المليون من الأحرار الذين تجمعوا هناك للمطالبة برحيل النظام. ولكنه كانوا، إلى حد ما، جزءا من النظام، غير أنهم لم يفهموا.

تعتمل الساحة اليوم بمشاريع أحزاب جديدة وكثيرة، وهذا مخيف للبعض ممن تعودوا اقتسام فضاء كان يبدو لهم جاهزا للتعليب. هذا دليل صحي على الحياة الجديدة التي بدأنا نتنفسها. في مسار الانتقال الديمقراطي، وعندما يبدأ الاستبداد في الانسحاب من أذهان الناس، تكثر الأفكار وتتعدد، ينجب بعضها بعضا، فتتشظى الساحة بحسب أفكار التغيير ومشاريع الحياة القادمة. بعد ذلك ينطلق مسار معاكس، هو دائما في دائرة التوقع، تزول فيه أسماء وتتحالف فيه تيارات من أجل أن تصبح أكثر قوة وحضورا في المجتمع، حينئذ يكون حضور أحزاب النمط القديم قد أصبح أكثر هامشية مما كان، وهذا ما يخيفها فعلا. هناك عملية تجديد حقيقي تتم اليوم لكل الفضاء السياسي والمدني، بظهور عشرات الأحزاب والجمعيات غير الحكومية. وإذا كانت الأحزاب بطبيعتها مشاريع سياسية، فإن الجمعيات هي مشاريع مجتمعية ستحصن التونسيين من عودة الديكتاتورية في المستقبل وستضيق الخناق على كل من سيوجه نفوذه إلى غير الوجهة الصحيحة. هذا المخاض مخيف بالنسبة للبعض، لأنهم لا يستطيعون التنبؤ بشكل الوليد الذي سيقع إنجابه، ولأنه لا ضمانات لأن يكون الوليد مستنسخا منهم. في خضم ذلك ينشأ مجتمع جديد ونخب جديدة وأشكال جديدة، ومواليد يرفضون أن يمروا بمحضنة الهياكل القديمة.

ذلك ما يطمئننا على أن ما يحدث اليوم في بلادنا هو ثورة حقيقية، وذلك ما يجعل الخائفين في وضعية الترقب القلق، فلا أحد غيرهم يتوهم أنهم في مرتبة الزعامة، وأنها إن وجدت قابلة للاستمرار. ذلك ما يفسر أنهم يخافون من الثورة، فيخوفوننا منها ولا يرون فيها سوى فوضى وانعدام وعي. ذلك ما يفسر أننا من ناحيتنا نخاف على الثورة وليس منها. نخاف عليها من كل عودة للقديم، منطقا وممارسة، من الوصاية وما تخفيه من النوايا، ظاهرها ومضمرها. مشكلتهم أنهم لم يفهموا ما معنى ثورة، وأنها تمت على غير النسق الذي كان يداعب بعض أحلامهم عندما كانوا شبابا. مشكلتهم أن التونسيين كانوا أكثر وعيا ونضجا، وأن هذا الوعي وهذا النضج يجعلان من فكرة الوصاية ذاتها من بقايا النسق القديم الذي يقول له التونسيون اليوم، بصوت واحد: "ارحل".

عدنان المنصر، مؤرخ، مواطن حر
12 فيفري 2011

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire