jeudi 16 juin 2011

وثيقة ـ أسس البرنامج الانتقالي للثورة الدائمة في تـــونس رابطة اليسار العمالي ـ جوان



أسس البرنامج الانتقالي للثورة الدائمة
في تـــونس
مثلت الثورة التونسية أولى ثورات القرن الواحد والعشرين ودشنت أفاقا جديدة في طبيعة الثورات العالمية في عصر العولمة، سواء من حيث القوى والحركات الاجتماعية التي تداولت على صنع أحداثها أو الوسائل الاتصالية المستخدمة أو كذلك من خلال تطور نسق الشعارات والمطالب من داخل السيرورة الثورية التي تفتحها محليا وقوميا وعالميا. أنجزت ثورة 14 جانفي خارج السياق العام للثورات الاجتماعية والتحررية الذي ميز النصف الأول من القرن العشرين وخارج سياق الثورات السياسية في أوروبا الشرقية أواخر نفس القرن، أما خصوصيات هذه الثورة من حيث طبيعة القوى الاجتماعية الفاعلة في أحداثها وعلاقتها بالحركات السياسية فقد أخرجت الثورة التونسية من النماذج الكلاسيكية لصنع الثورات وقيادتها، وبذلك فهي تطرح مهاما ثورية أكثر تعقيدا وأكثر إلحاحية من تلك التي واجهتها أغلب الثورات السابقة خاصة بعد السيرورة الثورية التي ما فتئت تتوسع محليا وعربيا وربما عالميا مما يتيح فرصا وإمكانيات واسعة لاستمرارية الثورة وتجذرها على صعيد النضال الأممي الذي يعرف نفس التناقضات بين استفحال أزمة اللبرالية الجديدة وتضرر الشعوب والطبقات المستغلة والمفقرة والمهمشة وسط سيرورة استنهاض عالمية تقودها الحركات الشبابية والعمالية والثقافية المعادية للرأسمالية.
إن طبيعة التناقضات الاجتماعية الجديدة التي انضافت للتناقضات الطبقية القديمة وظهور فئات وشرائح اجتماعية أكثر تضررا من الفئات والشرائح العمالية المستغلة، جعل من ظواهر التهميش والإقصاء برهانا آخر على فشل الرأسمالية العالمية والمحلية على إدماج قطاعات واسعة حتى داخل تناقضاتها الكلاسيكية التي كانت تحاول تصريفها بواسطة تدخل الدولة في الاقتصاد تحت مسميات مختلفة. فمع انتصار خيار اللبرالية الجديدة عالميا بعد سقوط جدار برلين وانعكاساته على الخيارات الاقتصادية في تونس، فسحت سلطة بن علي المجال أمام الرأس مال العالمي لفرض برنامجه اللبرالي حتى أصبحت تونس مختبرا لهذه السياسات المعادية لجماهير الشعب الكادح. وبذلك أصبحت السوق الداخلية غير قادرة على استيعاب المخلفات الاجتماعية للسياسات اللبرالية في الخوصصة وتحرير الأسعار وانسحاب الدولة من إلتزاماتها الاجتماعية والاقتصادية، خاصة بعد استشراء الفساد المالي والإداري والسياسي الذي كان ينهك الاقتصاد المحلي بمزيد من الديون والارتهان للخارج فتوسعت القاعدة الاجتماعية للفئات المتضررة وشملت مختلف الشرائح المتوسطة والدنيا من عمال القطاع الخاص والقطاع اللاشكلي (عمال البناء وعمال تجارة التفصيل والعمل عن بعد..) وعمال المناولة والتعاقد الدوري... أما الفئات الأكثر تضررا فتمثلت في المعطلين عن العمل سواء من أصحاب الشهادات الجامعية أو من ذوي التكوين المهني المحدود أو كذلك ممن لا تكوين لهم على الإطلاق، وأصبحت معدلات مدة البطالة تتوسع من سنة إلى أخرى حتى فاقت العشر سنوات في عديد الحالات وهو ما جعل من ظواهر التهميش والإقصاء والحرمان تنضاف إلى ظواهر الاستغلال والاضطهاد وتراجع المقدرة الشرائية. أما على المستوى السياسي فقد أنتج النظام التسلطي والاستبدادي وضعية من خنق الحريات وتعميم القمع السياسي والأمني والتضييق على حرية العمل النقابي واختراق مكونات المجتمع المدني بالتصفية والتآمر والتدجين حتى وصل نظام بن علي إلى مأزق سياسي لم تعد تفيد معه حملات الدعاية والمناشدة وأصبح يمثل عبء سياسيا حتى على بعض حلفائه من القوى الامبريالية خاصة مع استفحال أزمة الخلافة رغم آليات الزبونية السياسية التي يستخدمها بتحويل الحقوق المدنية والسياسية إلى امتيازات مقايضا إيّاها بالولاء الناشط لبن علي والمقربين منه.
لا شك في أن العديد من قطاعات بورجوازية الأعمال والبورجوازية التجارية كانت قد عقدت تحالفات مع بؤر الفساد المالي والإداري في أجهزة الدولة واستفادت من كثير الامتيازات الجبائية والقمركية على حساب العمال (سياسات الإعفاءات والتأهيل الشامل، تدني الأجور باسم السلم الاجتماعية) والفئات الدنيا منهم (المناولة، مرونة التشغيل، التملص المقنن من الضمانات المهنية والاجتماعية...)، غير أن قطاعات أخرى من البورجوازية الصناعية وتجار التفصيل وغيرهم تضررت من هذه الوضعية بتشجيع الأنشطة التصديرية على حساب تلك الموجهة إلى السوق المحلية.
الثورة التونسية: الطبيعة المزدوجة
اندلعت الثورة التونسية بعد جملة من المراكمات النضالية التي كانت تظهر من حين إلى آخر في شكل احتجاجات فردية أو جماعية أو حركات اجتماعية مطلبية تمحورت حول مواجهة القمع والملاحقات والاعتداء على الحريات الفردية والعامة والمطالبة بالتشغيل والحفاظ على بعض موارد الرزق والإضرابات العمالية في العديد من القطاعات المناضلة. بعد أن تسارعت وتيرة بعض الحركات الاحتجاجية مثل أحداث الحوض المنجمي في 2008 وأحداث بنقردان صيف 2010 ، لم تكن حادثة إقدام أحد الشبان على إحراق نفسه في مدينة سيدي بوزيد يأسا واحتجاجا الأولى من نوعها إلا أنها كانت الحادثة التي جلبت حركة من التعاطف والغضب عبّر عن درجة من الاحتقان لدى الشباب اليائس من آفاق الاندماج المهني في مناطق كثيرة من "تونس الأخرى" التي راكمت عقودا من التهميش والإقصاء نتيجة اللاتوازنات الجهوية الموروثة والتي ازدادت حدة خلال ما يزيد عن عقدين من اللبرالية الاقتصادية وانسحاب الدولة الممزوجتان بالتسلط السياسي والمركزية المفرطة والفساد الإداري والمالي.
كما تغذت كراهيّة الجماهير الشعبيّة لنظام بن علي، بالإضافة إلى رفضها للاستغلال والاستبداد، من مشاعر الظلم والإذلال والوعود غير الصّادقة، وممارسات عائلتي بن علي والطرابلسية والعائلات المتصاهرة معها والتي تحوّلت إلى كراهية عميقة لسلطة بن علي. أخيرا، حفّزت الصّعوبات الاقتصاديّة، التّي فاقمت بدورها الأزمة الاجتماعيّة، الطبقات الكادحة وجماهير الشباب على الثورة على نظام بن علي. فخلافا لما كانت تدعيه السلطة الدكتاتوريّة حول حسن تماسك الاقتصاد في وجه الأزمة الاقتصاديّة العالميّة، فإنّ العديد من القطاعات الاقتصاديّة الحيويّة قد تأثرت بشكل ملموس جرّاء تباطؤ النموّ وانخفاض الطلب في البلدان المتعاملة مع تونس وفي مقدمتها فرنسا. وهو ما يدلّ عليه انكماش الاستثمار، وتراجع مؤشر الإنتاج الصناعي، وركود القطاع السياحي وتقهقر الصادرات، وتدنّي نسب النموّ الاقتصادي إلى ما دون التوقعات بكثير.
يتضح من خلال الحركات الاجتماعية التي بادرت بالاحتجاجات والقوى الاجتماعية التي واصلت الانتفاض أو تلك التي انتهت بها إلى ثورة اجتماعية أسقطت جزء كبيرا من مكونات النظام التسلطي، أنها عبرت عن عديد الفئات الاجتماعية أهمها تلك التي عانت من إقصاء مزدوج بحكم انتماءاتها الاجتماعية الطبقية العمودية وانتماءاتها الجهوية والمحلية الأفقية خاصة بفعل وضعية البطالة وانسداد الآفاق المهنية والاجتماعية أمامها. أما القوى الاجتماعية الأخرى التي شاركت في الثورة وواصلت دعمها حتى إسقاط العديد من أسس النظام السياسي السابق، فقد عبرت بدورها عن فئات وسطى واسعة تضررت من التسلط السياسي والإقصاء المدني مثل الفئات الشبابية التلمذية والطلابية التي كانت ترى مستقبلها في وضعيات البطالة المزمنة وانسداد الآفاق.
الطبقة العاملة والاتحاد العام التونسي للشغل: لقد برز من جديد، من خلال الثورة، الدور المركزي للطبقة العاملة في الصراع الطبقي في تونس، حيث كان لعموم الأجراء دور هامّ في تحقيق التعبئة الجماهيرية وفي تعميم الحركة الثوريّة في كامل البلاد وكذلك على مستوى تجذير مطالب الثورة وشحذ عزيمة الجماهير حتى إسقاط الدكتاتور. ممّا يعطي لجماهير الشغيلة دورا أساسيّا في السّيرورة الثوريّة الرّاهنة.
تجلت مُساهمة الطبقة العاملة في الثورة في مرحلة أولى من خلال الاندفاع العفوي للشغيلة في الاحتجاجات الشعبيّة، خاصّة الشباب العامل والفئات المهنيّة المستخدمة في قطاعات التشغيل الهش والمحدود، وكذلك جماهير الشبيبة المعطلة عن العمل، ثم على إثر انعقاد الهيئة الإداريّة يوم 10 جانفي والضغط النضالي لليسار النقابي على القيادة البيروقراطية داخل الاتحاد العامّ التونسي للشغل وخارجه، أعلن الاتحاد بوضوح وقوفه إلى جانب الثورة تحت الضغط وتجسم ذلك من خلال برمجة سلسلة من الإضرابات العامّة الجهويّة، القناة الرئيسيّة لتدخل الطبقة العاملة والطبقات الكادحة عموما في الثورة. وهو ما أكسبها قوّة ضاربة كان لها الكلمة الفصل في حسم الصّراع مع سلطة بن علي لفائدة الثورة. وفي المقابل، لم يكن للأحزاب السّياسيّة دور مهم في تنظيم الجماهير الشعبيّة والطبقة العاملة على وجه التحديد حيث اعتمدت الحركة الثوريّة على آلاف المناضلات والمناضلين المحليّين الذين أفرزتهم الأيام الثوريّة على ساحة النضال، ولم تنجح الثورة في فرز قيادة سياسيّة ذاتيّة مُمركزة وطنيّا ولها برنامجها الثوري الخاصّ.
لذلك فإنّ من أوكد مهامّ الطليعة الثوريّة ضرورة السعي إلى توحيد صفوفها حول برنامج حدّ أدنى، بما يضمن لها القدرة على التأثير على ميزان القوّة الطبقي والصراع السّياسي الدّائرة رحاه ما بين قوى الثورة المضادة التي تسعي إلى إبقاء تونس تحت الهيمنة الأجنبيّة، وشعب يكدّ ويعرق من دون الاستفادة من ثمار جهده التي تستحوذ عليها أقليّة محليّة وأجنبيّة ثريّة، وهو ما سيمكنها من الالتحام بالطبقة العاملة والجماهير الكادحة وجماهير الشباب من أجل فرز قيادة سياسيّة ثوريّة تضمن تلاحم الطليعة الثوريّة مع جمهرة المناضلات والمناضلين الثوريين في كافة مدن وجهات البلاد.
إن تحقيق أهداف الثورة من منظور طبقي يفترض عدم الوقوف بها عند حدود الديمقراطية السياسية وحقوق المواطنة الاجتماعية ولابد أن تستمر السيرورة الثورية حتى تتسع لتطلعات كل الطبقات والفئات والشرائح الاجتماعية ذات المصلحة في التغيير الشامل والعميق، من الجماهير المستغلة والمضطهدة والمهمشة ممثلة في:
ـ العمال بالفكر والساعد بما في ذلك الفئات الدنيا من عمال البناء والحضائر والقطاع اللاشكلي والعمال الفلاحيين الخاضعة لما يسمى بمرونة التشغيل والتي تعاني من تدني الأجور وانقطاعها ومن غياب الضمانات المهنية والاجتماعية.
ـ صغار ومتوسطي الفلاحين والتجار، وأصحاب الحرف والمهن الحرة وأصحاب المؤسسات الصغرى والمتوسطة المتضررين من الاحتكار ومن صعوبات التسويق ومن آليات التمويل البنكي المتجهة لخدمة بورجوازية الأعمال في القطاعات التصديرية على حساب السوق المحلية.
ـ الموظفين العموميين من أعوان وكوادر، المتضررين من فساد الأجهزة البيرقراطية الهرمية والزبونية الإدارية القاتلة لكل عمليات الابتكار والمبادرة وخاصة من نظام الحصتين و48 ساعة عمل أسبوعيا.
ـ المعطلين عن العمل من الجنسين في جميع الاختصاصات وممن لا اختصاص لهم داخل جميع الجهات خاصة الجهات الداخلية التي تشكو من محدودية الاستثمارات التنموية في جميع القطاعات والمقصيين تماما من كل نشاط اقتصادي واجتماعي.
المهام الانتقالية
أفرزت ثورة 14 جانفي وضعا ثوريا جديدا وديناميكية نضالية تفتح آفاقا واسعة لمواصلة الثورة وتعبئة نضالات الجماهير نحو المهام الانتقالية القادرة على المرور بالمطالب السياسية الديمقراطية إلى مطالب إقتصادية اجتماعية لفائدة الجماهير المهمشة والمستغلة والمضطهدة من أجل إعادة توزيع الثروة والسلطة والمشاركة الفعلية في إعادة إنتاجهما. فاستمرارية الثورة ومواصلتها في جميع المجالات وعلى جميع الجبهات هو الكفيل بتحقيق مشروع مجتمعي جديد أساسه الديمقراطية القاعدية والعدالة الاجتماعية المعممة والمساواة الكاملة في الحقوق والواجبات المدنية لتحرير الطاقات الفردية والجماعية من كل أشكال التسلط والوصاية والهيمنة.
غير أن مشروع المواطنة هذا لابد أن تحققه الفئات والشرائح التي ساهمت في الثورة بالتحالف مع الطبقات الجماهيرية المتضررة من الرأسمالية ومن نسخها اللبرالية والتي لها مصالح مباشرة وتاريخية في إحداث التغيير المجتمعي الشامل والعميق لكل البنيات على أسس انتقالية تربط بين برنامج الحد الأدنى في المواطنة والديمقراطية والإصلاح وبين برنامج الحد الأقصى في التحرر من الاستغلال والاضطهاد والتهميش والاقصاء، كما تصوغه الجماهير وتطمح إليه دون فواصل مرحلية أو تاريخية تهدد آمال المستغلين والمضطهدين والمهمشين والمقصيين وتجهض تطلعاتهم المشروعة في التحرر و الانعتاق والمشاركة. ولتحقيق هذه المهام الانتقالية لابد من تجذير المطالب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وتكثيفها في مهام سياسية نابعة من رؤية برنامجية ذات محتويات طبقية واضحة تفتح مجالات ملموسة لانخراط العاطلين والعمال والفئات الوسطى وصغار ومتوسطي الفلاحين والتجار، وأصحاب المهن الحرة... في النضال الميداني عبر مختلف الأشكال الممكنة أو المبتكرة وتحفيزها لتحقيق أهدافها كاملة في تقاسم الثروة والسلطة والعمل على تأزيم الوضع الاقتصادي والسياسي وإحراج الحكومات البورجوازية بمزيد من المطالب التصاعدية.
فعلى المستوى السياسي يكون النضال متجها نحو مزيد توسيع دوائر المشاركة المدنية والسياسية في جميع مؤسسات الدولة وهيئاتها التشريعية والتنفيذية لتحقيق الديمقراطية المحلية باعتماد آلية الديمقراطية الانتقالية التي تقوم على مبادئ الاقتراع القاعدي والتداول الإلزامي والتمثيل النسبي. فقد خلّف النظام الموروث تفاوتات عميقة بين الفئات والطبقات والجهات لا تتيح فرصا متساوية في إمكانية التمثيل الديمقراطي الصادق لمختلف المكونات الاجتماعية المتضررة من العهد السابق إقصاء وتهميشا واستغلالا واضطهادا، ويكون بالتالي من مواصفات العدل الديمقراطي أن تمثّل الفئات والشرائح الأكثر تضررا من غيرها بطريقة نسبية تراعي حجمها العددي في الواقع وخصوصية مطالبها في التحرر والمساواة والمشاركة والإدماج ، وهي الفئات التي يمكن إجمالها في:
ـ الجهات المهمشة التي عانت من اللاتوازنات الجهوية وكانت ضحية انعدام العدالة التنموية في التشغيل والبنية التحتية والخدمات الاجتماعية والترفيهية.
ـ الفئات الشبابية المقصية من حقوق المواطنة ورزحت تحت طائلة البطالة الهيكلية وعانت من مختلف أشكال الوصاية والتهميش والتعتيم.
ـ الفئات العمالية الدنيا الأكثر استغلالا والأقل تمثيلا نقابيا ومدنيا مثل عمال البناء والقطاع اللاشكلي وكل الخاضعين لنظامي المناولة والتعاقد الدوري.
ـ جماهير النساء المعرضّات لأشكال مزدوجة من الاستغلال والاضطهاد والتهميش والإقصاء بفعل العلاقات الاجتماعية الذكورية المدعومة بعناصر الثقافة التقليدية وعلاقات الاستغلال الرأس مالي المبضعة للمرأة.
إن هذه المرحلة من تطور نسق الثورة محليا وعربيا يفترض توحيد نضالات الجماهير حول جملة المهام السياسية الآنية المرتبطة بتصفية الإرث التسلطي والتصدي للثورة المضادة بحل أجهزة الأمن السياسي ومنع العودة السياسية للتجمّعيين عبر أشكال حزبية متحايلة على إرادة الجماهير والمطالبة بتحرير القضاء والإعلام تحريرا كاملا على اعتبار أن حرية الصحافة تختزل حرية التفكير والتعبير والنشر، والمحافظة على كل المكتسبات الاجتماعية والتحديثية وتطويرها في مجال الحريات الخاصة والعامة وتحييد الدين ودور العبادة عن مسرح الحياة السياسية والمساواة الكاملة بين النساء والرجال بما في ذلك الإرث والولاية والتمثيل النسبي. وهي جملة المطالب التي يمكن أن تصاغ من داخل الاستقطابات السياسية الثلاثية لطبيعة المرحلة الانتقالية والمشاريع المجتمعية المتنازعة والتي تتمحور حول القطب اللبرالي والقطب السلفي والقطب اليساري التقدمي.
لقد اتضح اليوم أن التعبيرات السياسية اللبرالية ما فتئت تتآمر على الثورة من خلال الحكومات المتعاقبة التي نجحت الثورة في كنس بعضها في حين مازالت الحكومة الحالية تحاول مصادرة المهام الثورية ارتباطا بمصالح الرأس مال المحلي والعالمي وببقايا النظام السياسي البائد والتستر على رموزه السابقين بل تحاول بعثهم من جديد في شكل تلوينات حزبية عديدة معروفة الارتباطات والتوجهات ضمانا لاستمرار النهج الرأس مالي والامبريالي في الاستغلال والتسلط والاضطهاد. فقد عمدت قوى الثورة المضادة على تنويع مؤامراتها ابتداء من التلاعب بفصول الدستور وتشكيل حكومات مستميتة في الدفاع عن بقايا النظام وزبائنيته والدفاع عن المصالح الامبريالية في تسديد ديون بن علي، وقطع الطريق على الجماهير بالانقلاب على مجلس حماية الثورة وتعويضه بالهيئة المنصبة ذات المهام الالتفافية مرورا باستعادة الهيمنة على وسائل الإعلام والقضاء ووصولا إلى مقايضة الأمن بأبسط الحريات وتعمد إرهاب المواطنين بالانفلات الأمني بل وتعمد فسح المجال أمام أجهزة الأمن السياسي لإثارة الفوضى وقمع النضالات المشروعة وذلك من أجل إنهاك الجماهير والقوى الثورية والتقدمية وإقصائها من مهمة إنجاز المجلس التأسيسي الشعبي لفائدة قوى اليمين والقطب البورجوازي اللبرالي.
أما التعبيرات السلفية فقد أظهر بعضها العداء البين للمصالح الطبقية الجماهيرية وللديمقراطية وللحريات العامة والخاصة ولكل مظاهر الحداثة المدنية والسياسية شاهرا سلاح التكفير والعنف والاعتداء على المواطنات والمواطنين كاشفا عن حقيقة المشروع السلفي وتجذره في الرجعية والمعاداة الفظة لأبسط الحريات والحقوق الفردية والجماعية. وبالموازاة تقدم بعض الحركات السلفية الأخرى نفسها كأحزاب سياسية تدعي الديمقراطية والتسامح لتغالط الجماهير وبعض النخب وحتى بعض السياسيين واليساريين (تجمع 18 أكتوبر)، لكنها في كل منعرج تكشف حقيقة برنامجها السياسي والاجتماعي والاقتصادي مستندة إلى ما تعتبرة "حكم الله" وما تدعو إليه من دولة تيوقراطية معادية لمصالح العمال والجماهير الشعبية وللدولة المدنية المواطنية التي لا تميز بين المواطنين على أساس الدين واللون والجنس والعرق.
إن المشاريع الأصولية الاستردادية التي تنادي بها هذه الحركات باسم الدين والتراث والهوية تبين عمق معاداتها للمرأة ولمكاسبها ولكل آفاق تحررها وانعتاقها كما تكشف عن خطورة المشروع المجتمعي التي تعمل على إرسائه بكل ما يحمله من تهديدات مدنية وثقافية وفكرية مستغلة في ذلك المشاعر الدينية للجماهير المفقرة والمضطهدة. وقد بين تاريخ هذه التيارات، إن في تونس أو في تجارب أخرى في المنطقة العربية والعالم الإسلامي مد ارتباطاتها المعلنة أو الخفية، الحينية أو الدائمة، المالية أو الإيديولوجية بدول مغرقة في الرجعية والعمالة سواء كانت خليجية أو حتى إيرانية. فطبيعة الانحدار الطبقي والاجتماعي البائس لهذه الحركات من فئات وسطى وبورجوازية صغيرة مفقرة أو مهمشة مدعومة برؤى إيديولوجية يائسة ومغتربة عن العصر يجعلها غير قادرة على أن ترى أفقا غير الماضي التليد تعمل على النكوص إليه بكل بنياته البدائية وولاءاته التقليدية وتصوراته القروسطية.
فالنضال الجدي ضد السلفية في كل القطاعات وعلى كل الجبهات يمر حتما عبر إيجاد قطب عمالي شعبي ديمقراطي من خلال برنامج يقطع مع كل أنماط التفقير الاجتماعي والتهميش المدني والتغريب الثقافي والارتهان الخارجي، ويكون على القوى الثورية أن تستعد للالتقاء مع الأطراف الديمقراطية والتقدمية لخوض معارك خصوصية ضد هذا التهديد الرجعي المعادي للجماهير والعمال والنساء وكل التحرريين على أن تبقى قوى اليسار الثوري القاطرة الأساسية في قيادة هذه المعارك السياسية.
غير أن القطب اليساري القادر على تحقيق أهداف الثورة ومهامها الانتقالية من منظور طبقي ممثلا في قوى اليسار الراديكالي، مازال في أغلب مكوناته مرتبكا في وضوحه الفكري ومترددا في تبني المطالب الجماهيرية والوطنية والطبقية تستهويه لعبة المواقع داخل المؤسسات البورجوازية أكثر من دفع النضالات الميدانية وقيادتها وتفعيل أطر التنظم الذاتي ممثلة في مجالس حماية الثورة محليا وجهويا ووطنيا. أما على الصعيد الجبهوي اليساري، فإن تجمع 14 جانفي تحول إلى هيكل مفرغ من أي دور سياسي فاعل عدى بعض البيانات اليتيمة، منقطعا عن حركة النضال اليومي، عاجزا حتى عن صياغة بعض التصورات البرنامجية أو المبادرات النوعية وانشغلت عنه أغلب مكوناته بالعمل الحزبي الخاص على حساب العمل الجبهوي عوض أن تتكامل معه ضمن رؤية إستراتيجية موحدة في حدها الأدني على خوض المعارك السياسية المقبلة لفائدة الجماهير ذات المصلحة في التغيير نحو البناء الاشتراكي.
وجدت الثورة التونسيّة نفسها مُلزمة بمهامّ ذات طابع ديمقراطي، وأخرى لها صلة بالهيمنة الامبرياليّة على البلاد ومهامّ ذات بعد اجتماعي اقتصادي، ممّا يفسّر الطابع المركّب لهاته الثورة، أي تلازم هذه الأبعاد الثلاثة في السّيرورة الثوريّة الجارية. وإذ نشير إلى هذه الطبيعة التاريخيّة والاجتماعيّة المحدّدة للثورة التونسيّة، فإنّ ذلك ينبع من قناعتنا أن مهمّة الثوريّين تتمثّل تحديدا في السّعي لدمج مختلف هذه الأبعاد في برنامج ثوري متماسك والنضال الجدّي من أجل تحقيقه وذلك من خلال المهام التالية :
ـ تثبيت الحقوق والحريّات الديمقراطيّة وتوسيعها: من الطبيعي أن تسعى الثورة التي قامت ضدّ السّلطة الدّكتاتوريّة إلى تفكيك آليّاتها وأدواتها واستبدالها بأخرى تضمن التعبير الحرّ والمُمارسة المُستقلّة، وتصون الحُرّيّات الفرديّة والعامّة، وتعترف بالحقوق وتضمن ممارستها الحرّة وتعمل على دعمها وتوسيعها، كما تكون مرآة عاكسة للإرادة الشعبيّة وخاضعة للرّقابة الديمقراطيّة والمحاسبة. لقد تقدّمت الثورة اليوم أشواطا ملموسة على هذا الدّرب، بعد أن فرضت على حكومة الثورة المضادة الماسكة بالسلطة حلّ التجمّع الدستوري الديمقراطي، وحلّ الدستور والدعوة إلى انتخاب مجلس تأسيسي، والشروع، ولو ببطء شديد، في محاكمة بعض المسؤولين في النظام السّابق.
لكن هذه الخطوات وعلى أهميتها لا تزال هشّة وقابلة للتلاشي ما لم تتدعّم بمكاسب عديدة تخصّ ضمان الحقوق الاجتماعيّة والاقتصاديّة الأساسيّة، وكذلك التقدّم على مستوى إعادة تملك السّيادة الشعبيّة وضمان حقّ تقرير المصير للشعب التونسي. حيث أنّ الديمقراطيّة هي، بالإضافة إلى ترسانة الحقوق والآليّات والأدوات التي تنظمها وتنظم سيرها، سياق متداخل الابعاد السّياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة.
لا يشك أحد اليوم في دور المطالب الاجتماعيّة والاقتصاديّة لعُموم الكادحين وجماهير الشّبيبة في تفعيل الثورة وتجذير مطالبها، في مقدمتها مطلب التشغيل، ولكن أيضا ظروف العمل وشروطه، خاصّة الأجر والترسيم والمناولة وشروط الهشاشة، والتي يتوقف عليها الدّخل الذي يحدد بدوره مستوى العيش والفقر. فعلى عكس ما تدعيه الحكومة المؤقتة ووسائل دعايتها، وأغلب الأحزاب السّياسيّة، لا تحتمل هذه المسائل الانتظار مراحل أخرى، كما أنّها لن تكون حاصل ما يسمّى 'الانتقال الديمقراطي'، بل على العكس تماما، يمثل النضال المتماسك من أجل المجابهة العاجلة لمظاهر الفقر المدقع من خلال ضمان دخل أدنى قارّ لكافة العائلات المُعدمة، الواقعة تحت عتبة الفقر، والتي تفيد الأرقام الرّسميّة أن عددها يقارب 200 ألف، أي ما يمثل حوالي عُشر سكان تونس. إلى جانب ضمان منحة قارّة للتعويض عن البطالة لكافة المُعطلين عن العمل، والرّفع في مستوى الأجر الأدنى الصّناعي والفلاحي مع إلغاء نظام 48 ساعة، والشروع الفوري في مفاوضات قطاعيّة بهدف الترفيع في مستوى الأجور، و مراجعة مجلّة الشغل لمنع كافة اشكال التشغيل الهشّ والعمل بعقد محدّد المدّة ولحماية العمل وإقرار مبدأ العمل بعقد غير محدّد المدّة لكافة المشتغلين بعد استيفاء مدّة تربّص يقع التفاوض حولها. وتطوير نظام الحماية الاجتماعيّة وتعميمه ومراجعة قاعدة العلاج المجاني بهدف توسيع دائرته ليشمل كافة العائلات ذات الدّخل الضعيف.
ـ تحقيق السّيادة الشعبيّة الوطنيّة: تمكّنت القوى الرأسماليّة العالميّة، على خلفيّة أزمة النّظام البورقيبي، من فرض سياسة التعديل الهيكلي على تونس منذ 1986 ثمّ جرى تثبيت هذا النظام وتوسيعه تحت حكم بن علي، بواسطة التوقيع على اتفاقية "الغات" وأكثر من اتفاق حماية الاستثمار الرأسمالي وخاصة اتفاق الشراكة الأورومتوسطيّة، ممّا أفقد الدّولة التونسيّة جزءا هاما من سيادتها، في حين خسر الشعب بالإضافة إلى حريّته، حقّه في تقرير مصيره بنفسه. ولا تزال تونس، بعد قيام الثورة، تعيش تحت نير هذه السّياسات والمُعاهدات التي تُعدّ بلا منازع من بين العقبات الرئيسيّة التي تمنع تونس من القطع مع النظام الاستغلالي واللاوطني البائد.
ليس برنامج التعديل الهيكلي مجرّد لائحة إجباريّة من الإجراءات الماكرو اقتصاديّة التي يجري تطبيقها فقط، بل هو بالإضافة إلى ذلك تعبير عن مشروع سياسي يتمثل هدفه الأساسي في جعل الكوكب، مجالا لتدخل آمن وميسور للشركات الرأسماليّة العابرة للقوميات. بعبارة أخرى هو جسر عبور الرأسماليّة العالميّة الجديدة إلى تونس، وهي نفس الاستراتيجية التي يتم تطبيقها في سائر البلدان الأخرى من خلال دفع مسار العولمة الرّأسماليّة الليبراليّة وتيسير انتشارها من خلال التحرير الاقتصادي، وإزالة القوانين غير المناسبة وإضعاف دور الدّولة في المجالات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافية.
وبقدر ما تضعف اجراءات التعديل الهيكلي قدرة المواطنين على ممارسة حقوقهم الاقتصادية والاجتماعيّة والثقافية وحقهم في حياة أفضل وحقوقهم المدنيّة والسياسيّة وحقّهم في العيش في بيئة سليمة، فإنها تضعف بالقدر نفسه قدرة الدّولة على ضمان هذه الحقوق لهم ورعايتها وتطويرها، تماما كما يضعف المرض الجسم ويحدّ من قدرته ويشل طاقته. وبالتالي يشترط تقدّم مسار الثورة العمل بتماسك وثبات على إسقاط هذا البرنامج الذي ألحق بالجماهير الشعبيّة والطبقات الكادحة أشدّ الأضرار وأوكل للدوائر الإمبرياليّة الحقّ في تقرير مصير تونس.
كما يمثل النضال ضد السياسة الاستعمارية الأوروبية الجديدة التي يجسمها اتفاق بثبات على الشريط الجنوبي لضفاف المتوسط في إطار مشروع الشراكة الأورومتوسطية، تسعى الإمبريالية الأمريكية بدورها، من خلال مشروع الشرق الأوسط الكبير، إلى تدعيم حضورها العسكري والاقتصادي في هذا المجال الجيوستراتيجي الهامّ، الذي تتنافس فيه على دور الزعامة مع الإمبريالية الأوروبية.
ـ القضاء على الاضطهاد المضاعف للنساء: لقد انخرطت جماهير النساء بتونس بشكل كبير وملحوظ في الثورة حيث كانت لهن مشاركة فعالة بكل مراحلها ومظاهرها لما لهن من مصلحة في تقويض نظام بن علي الذي طالما تشدق بحقوقهن لذر الرماد على العيون, حقوق طالما استعملها تعلة وواجهة لحداثة وديمقراطية مزعومتين وأفرغها من محتواها التقدمي والتحرّري.
تعاني النساء في تونس من اضطهاد مضاعف: اضطهاد الخيارات الاقتصادية والاستغلال الرأسمالي المفقرة لأوسع الجماهير النسائية من جهة واضطهاد النظام الأبوي ألذكوري المتغلغل والذي يتمظهر عبر عقليات ومشاريع محقرة للنساء وقوانين تمييزية تجاههن. إن المجتمع الذي نصبو إليه لا بدّ أن يعمل على إلغاء كافة مظاهر التمييز ضد النساء وإقرار المساواة الكاملة بين الجنسين. فوضع النساء بتونس رغم ما حققنهن من مكاسب لا يزال يتميز بتكريس العقلية الأبوية عبر قوانين تمييزية مثل التوزيع اللامتساوي للأدوار داخل العائلة ومواصلة اعتبار الزوج ربا للعائلة يتمتع وحده بولاية الأطفال (إلا في حالات نادرة)، أو التوزيع اللامتكافئ للثروات داخل العائلة عبر قوانين للميراث لا زالت تعطي الذكر حظ الأنثيين وهو ما يساهم إضافة لعديد المعطيات الاقتصادية والاجتماعية في تفقير النساء وتأنيث الفقر.
كما أن العنف المسلط على النساء يبقى ظاهرة متفشية إذ أن امرأة على أثنين تتعرض لنوع من أنواع العنف الجسدي، أو الجنسي أو الاقتصادي. عنف تصعب مقاومته في ظل القوانين والمؤسسات الحاليّة. وتبقى المشاركة السياسية للنساء محدودة في جميع مجالات الفعل السياسي سواء كان ذلك في مسؤوليات الحكومة (وزيرتان فقط في الحكومة المؤقتة، أو في النقابات 1% من السؤولين النقابيين بالاتحاد العام التونسي للشغل)، وفي الأحزاب السياسيّة وحتى في منظمات المجتمع المدني. كما تواجه النساء اليوم عديد التحديات لعل من أهمها مجابهة الفكر الرجعي السلفي الذي تجلى في الفترة الأخيرة عبر نداءات بعض الأطراف الإسلامية المتطرفة لرجوع النساء للبيت والتخلي عن الشغل ,ومحاولة إجبار النساء على لبس الحجاب.
وتجمع الدراسات على ان ّ نسب البطالة والفقر عند النساء تتجاوز بكثير نسبها عند الرجال ويسود العمل الهامشي وسوق المناولة في استغلال العمل النسائي ولعل وضع عاملات المنازل مثال واضح على هدا الاستغلال، ولا تزال أجور النساء اقل من أجور الرجال في العديد من القطاعات وخاصة في العمل ألفلاحي، وتجابه النساء العاملات متاعب اليوم المضاعف بين العمل داخل المنزل وخارجه.
فمن أوكد مهام الثورة العمل بصفة مزدوجة ضد الاستغلال والتفقير للنساء وضد التمييز والعقلية الدكورية وسنعمل على رفع التحفظات على اتفاقيّة القضاء على كافة مظاهر التمييز ضد المرأة بما يعنيه ذلك من مساواة داخل العائلة وفي الإرث، وتبني خطة فعالة للتصدي للعنف المسلط على النساء بدمج الإجراءات القانونيّة والاجتماعية اللازمة لذلك، والعمل على مجابهة تأنيث الفقر عبر منع تهميش عمل النساء وتجريم المناولة وتحقيق ظروف العمل اللائق لهن والمساواة في الأجر، وتدعيم المشاركة في الحياة السياسية والحياة العامة عموما عبر اعتماد المناصفة كمبدأ عامّ، والعمل على مجابهة العقليات المحقرة للنساء والتي تعرقل حضورهن في الحياة العامة.
لقد تبين أن الشباب عامل محدد في الصيرورة الثورية. فاجأت جماهير الشباب بمشاركته الهامّة والفعالة في الثورة كل من اقتنع بعزوفهم عن النضال ضد الاستغلال والظلم ومن اجل الحرية والكرامة وأكدت الدور التاريخي لهده الفئة في الصيرورة الثورية. ولا بد من العمل على الاستجابة للمطالب المشروعة للشباب والتي في مقدمتها ضمان حقّ العمل وإصلاح النظام التعليمي العمومي باعتباره أساس التنمية الوطنيّة المنشودة كما العمل على توفير الشروط الملائمة لتحقيق الذات وتفجير الطاقات الشبابية عبر الانخراط في الحياة العامّة (أحزاب، جمعيات...) والنّوادي الثقافية والفنّية والأطر الرياضية، وكافة أشكال التنظيم والتعبير الذاتي والمستقل لجماهير الشبيبة. وأخيرا مراجعة القوانين المنظمة للعلاقات بين الجنسين التي يغلب عليها التكلس والطابع الزجري والتي لا تتماشى مع متطلبات الواقع المتحرّك ومع السلوكيات السائدة في ظل تأخر سنّ الزواج واستشراء العزوبة.
ـ المحافظة على البيئة وحماية المحيط كمعطى أساسي في التنمية العادلة: تشهد تونس العديد من المخاطر البيئيّة نتيجة للاختيارات الاقتصادية المدمرة للطبيعة حيث تسود ثقافة الربح بغض النظر عن الانعكاسات البيئيّة. وتبقى الدراسات التي تقوم بها الوكالة الوطنية للمحافظة على البيئة مجرد وثائق إدارية لا تراعي حقيقة المخاطر التي تهتك المحيط مثل ما تشهده مدن الحوض المنجمي خاصة الرديف، وكذلك قابس وصفاقس وغيرها من المدن التونسية. كما يسود تعتيم إعلامي كبير على اللجوء للأغذية المعدلة جينيا حيث اعتمدت العديد من المشاتل المعدلة جينيا دون نقاش وحتى إعلامنا بذلك. كما أن المصادر الطبيعية للطاقة غير مستغلة بما فيه الكفاية على غرار الطاقة الشمسية وفي المقابل لوحت سلطة بن علي بشراء مفاعلات نووية رغب ساركوزي في بيعها لتونس. وبالتالي فإنّ خيار حماية المحيط والتوازنات البيئيّة أمر على غاية من الأهميّة نعتبره الفيصل في مجمل الخيارات السياسية والاقتصادية.
إن جملة هذه المهام الانتقالية العاجلة يمكن اختزالها في المطالب التالية في انتظار صياغة البرنامج اليساري العمالي المفصل من داخل نضال جماهير العمال بالفكر والساعد والمهمشين من المعطلين والشباب والمفقرين في الأحياء الشعبية والأرياف والمظطهدين من النساء والأطفال وحاملي الإعاقات:
ـ من أجل تصفية الإرث التسلطي بمنع العودة السياسية لرموز النظام السابق ومتابعتهم قضائيا والحل الكامل لجهاز الأمن السياسي ومحاكمة المتورطين في التعذيب والقتل والارتشاء وإعادة هيكلة مختلف الأجهزة الأمنية وتكوين الأعوان في احترام القانون وحقوق الإنسان وتحسين ظروفهم المهنية والاجتماعية (احترام ساعات العمل القانونية والعطل الأسبوعية والسنوية والزيادة في الأجور...) وتحييد المؤسسة الأمنية مع تجريم تجاوز القانون والارتشاء أوالتلاعب بالواجبات الأمنية تجاه المواطنين.
ـ من أجل تفعيل المجالس الجهوية والمحلية باعتباها أدوات للتنظم الذاتي وإيجاد الحلول الديمقرطية لتجاوز الصعوبات التمثيلية والتوافقية التي تواجهها، والتصدي لمحاولات تدجينها والالتفاف على مطالبها داخل الهيئة العليا المنصبة، في إطار المجلس الوطني لحماية الثورة باعتماد الديمقراطية المحلية لإنجاز مؤتمرها الوطني الممثل ديمقراطيا والذي يحدد مهامه بكل استقلالية في مراقبة الحكومة وبناء برنامج نضال ميداني تصعدي والإشراف على الانتخابات.
ـ من أجل مجلس تأسيسي يمثل خيارات الثورة، منتخب ديمقراطيا يستبعد رموز النظام السابق وممثلا على قاعدة التمثيل النسبي للشباب والجهات والنساء (المناصفة بين الجنسين داخل المجلس وليس من خلال القوائم المترشحة) وعلى قاعدة تحييد الدين (بمنع توظيف دور العبادة وتجريم التكفير والتشهير بالعقائد) والحد من سطوة المال وسلطة الأعيان من البورجوازيين والملاكين الكبار في الحملات الانتخابية (بالاقتصار على التمويل العمومي) وهو ما يفترض إشراف المجلس الوطني لحماية الثورة على صياغة قانونه الانتخابي والإشراف على العملية الانتخابية.
ـ من أجل تصفية الجهاز البيرقراطي الجاثم على الاتحاد العام التونسي للشغل بإلغاء امتيازات ونفوذ القيادة البيرقراطية على منظمة الشغيلة التونسية عبر آليات محاسبة ومراقبة مستمرين بما فيها إجراءات إمكانية سحب الثقة من كل المسئولين النقابيين وتقليص فترات التمثيل النقابي في جميع الهياكل وفتح المبادرات النضالية أمام القاعدة في جميع القطاعات من خلال تغيير النظام الداخلي لفائدة القاعدة العمالية الواسعة.
ـ من أجل إلغاء الديون التي راكمها النظام السابق وتوظيف أصولها ومرابيحها في البرامج التنموية والتشغيلية داخل الجهات المحرومة وإعادة المؤسسات التي تمت خوصصتها في إطار منظومة الفساد إلى القطاع العام وتنظيم تسييرها من قبل العاملين فيها وإيقاف نزيف الخوصصة واسترجاع الأموال والثروات المهربة وفرض الضريبة التصاعدية على الدخل إلى جانب تجريم كل محاولات التهرب الجبائي والتحايل على الحقوق المهنية والاجتماعية للعمال.
ـ من أجل إصلاح زراعي على أسس من العدالة الإنتاجية المحلية وتجميع الملكيات المشتتة والتسهيلات البنكية لفائدة صغار ومتوسطي الفلاحين وإعادة هيكلة قوانين الشغل الفلاحي بما يساوي بين العمال الصناعيين والفلاحيين في الأجور والضمانات المهنية والاجتماعية وتهيئة البنية التحتية الريفية والقروية وتوفير مختلف الخدمات الاجتماعية والاتصالية.
ـ من أجل بناء خطط نضالية داخل مختلف الحركات الطلابية والتلمذية باستكمال بناء منظماتها التمثيلية بطريقة ديمقراطية على رأسها الاتحاد العام لطلبة تونس حرا ديمقراطيا ومناضلا وفك ارتهانه بالحسابات الحزبية مهما كانت طبيعتها، واستكمال اتحاد المعطلين عن العمل بتوسيع تمثليته وبعث صندوق للبطالة مع تمثيله في عمليات الانتداب في إطار المقاييس الواضحة والشفافة.
ـ من أجل إطلاق الحريات العامة والخاصة بما فيها حرية التفكير والتعبير والنشر والتنظم والتظاهر والاعتصام دون شروط مسبقة وضمان حرية المعتقد وحمايتها دون تمييز إلى جانب حرية الصحافة وإلغاء كل أنواع الرقابة على المنشورات والأنترنات وتمكين الصحفيين ومستعملي الشبكة العالمية من الضمانات القانونية والمهنية الكفيلة بتجاوز مختلف أشكال الرقابة والرقابة الذاتية مع تحرير القضاء والفصل الكامل بين السلطات وتحرير المجتمع المدني من هيمنة المجتمع السياسي.
ـ من أجل إصلاح جذري للتعليم في مختلف مستوياته بتشريك التلاميذ والمدرسين والأولياء والخبراء، وإعادة الاعتبار للمدرسة والمدرس وتخليص التعليم من التوظيف السياسي والاستعمال الدعائي ورفع مستواه البيداغوجي والمعرفي إلى جانب الإحاطة التربوية والتنشيطية بالتلاميذ خارج أوقات الدراسة والتصدي لأسباب العنف المدرسي وخاصة المسلط منه على الفتيات والمدرسّات والإداريات وإلغاء التعليم الخاص في مختلف المستويات.
ـ من أجل إعادة بناء جبهة 14 جانفي على أسس برنامجية ميدانية وطنيا ومحليا بما يتيح لها إمكانيات المبادرة السياسية النوعية بالخروج من وضعية رد الفعل والانخراط في السيرورة الثورية المفتوحة على احتمالات نضالية واسعة قادرة على استيعاب مطالب الجماهير المباشرة والتاريخية والدفاع عنها في منظور توحيد اليسار الراديكالي على أسس لا تكتفي بالمطالب السياسية بل تتجاوزها إلى المهام الاقتصادية والاجتماعية، وتعبئة حزامه غير المنظم لخوض المعارك السياسية القادمة بحظوظ أوفر والتوجه نحو بناء الأداة الثورية لاستكمال المشروع الثوري والاتجاه لبناء الاشتراكية على أسس جديدة.
ـ من أجل تحقيق الوحدة المغاربية في إطار المغرب الكبير مع مراعاة الحقوق الثقافية الأمازيغية وذلك على طريق تحقيق وحدة الأمة العربية التي تصنعها الجماهير ذات المصلحة في التغيير والتوحيد وتحرير فلسطين من الدولة الصهيونية العنصرية مع صون حقوق الأقليات القومية، وهي المهام التي فُتحت أمام تحقيقها آفاق سيرورة ثورية عربية مستمرة لن تنجح إلا بإسقاط الأنظمة السياسية الحاكمة وقوى الاستعمار الجديد المساندة لها بقيادة الأداة الثورية الموحدة نضاليا في عموم المنطقة العربية.
ـ من أجل حكومة ديمقراطية عمالية شعبية ذات برنامج اجتماعي واقتصادي عاجل على رأس أولوياته التشغيل والحماية الاجتماعية (مجانية الصحة والتعليم وخدمات الانترنات...) وإلغاء عقود الشغل الدورية والمناولة والزيادة في الأجر الأدنى الصناعي وتوحيده مع الأجر الأدنى الفلاحي وإدماج الرقابة العمالية في تسيير جميع المؤسسات العامة والخاصة إلى جانب إلغاء الاتفاقيات الاقتصادية الخارجية بمراعاة المصلحة الوطنية واحترام مبدأ السيادة الكاملة.
إن عجز الحكومة عن تحقيق هذه المهام بسبب ارتهانها بالقوى والمصالح الداخلية والخارجية، يفقدها كل شرعية تدعيها ويطرح على اليسار الثوري مهاما نضالية مشتركة في مختلف القطاعات والجهات ذات بعد انتقالي تتدرجي لا يمكن فصل مطالبه الديمقراطية والإصلاحية عن المطالب السياسية الاقتصادية والاجتماعية لمختلف الفئات والشرائح والطبقات الشعبية المعنية بالتغيير في الاتجاه الاشتراكي، وهي المطالب التي باتت تتراكم يوما بعد يوم وتفتح سيرورة ثورية متواصلة لا يمكن لجم ديناميكيتها مستقبلا. لقد أفصحت ثورة 14 جانفي عن العديد من الدروس لعل أهمها ما يرتبط ببناء الأداة أو الأدوات الثورية من داخل الدينامكية النضالية لمختلف الحركات الجماهيرية وببناء البرنامج العمالي الشعبي من داخل المطالب المباشرة والمهام التاريخية للطبقات والفئات والشرائح المعنية دون إسقاط أو وصاية. فعدالة الإنتاج وعدالة التوزيع والعدالة الديمقراطية التي ينادي بها الثوريون تعني اليوم تعميم الشغل والرفاه والتقاسم العادل للثروة بين الطبقات والفئات والجهات والأجيال، كما تعني إعادة توزيع للسلطة مقابلة مختلف الأطروحات الديكتاتورية بالديمقراطية العمالية الشعبية من داخل مشروع مجتمعي بديل يكون فيه الجهد بالفكر أو بالساعد المصدر الأساسي للمشاركة في إنتاج الحياة الاجتماعية والتمتع بالتوزيع العادل للمنتوجات والخدمات، ويكون فيه العمل مصدرا للتحرر والإبداع بدل أن يكون مصدرا للاستغلال والتفاوت والاغتراب، وهي المقدمات الضرورية للتصور الاشتراكي الأممي الذي يطمح إليه كل الثوريين في العالم مهما اختلفت توجهاتهم.
يمثل أعضاء رابطة اليسار العمالي تجمعا سياسيا من مناضلي الحركات العمالية والديمقراطية والنسوية والشبابية ذوي النزعة التضامنية الأممية والتوجه الديمقراطي القاعدي، والذين عرفوا بمعاداتهم للرأسمالية والاستبداد ولكل أشكال الاستغلال والاضطهاد والتمييز، ينخرطون في نضال الجماهير مساهمين في بناء المشروع الثوري لعموم المنطقة العربية، لا يطرحون أنفسهم بديلا جاهزا بل يطرحون تصوراتهم البرنامجية على كل اليساريين الثوريين والطلائع المناضلة في مختلف القطاعات وعلى الفئات والطبقات التي لها مصالح مباشرة وتاريخية في تغيير المجتمع تغيرا جذريا في اتجاه اشتراكي جديد يقطع مع تجارب الانحطاط البيرقراطي والاستبداد الدكتاتوري.

رابطة اليسار العمالي
جوان 2011

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire