dimanche 30 janvier 2011

ثورة في تونس ثورة في مصر.. ثورة ثورة حتى النصر



مصر ملتهبة ثائرة.. مئات الشهداء ارتقوا إلى العلا عند ربهم، يشهدون على ثورة شعب مصر العظيم، ويفدون بلادهم الحبيبة بدمائهم وأرواحهم. وقبل مصر كانت الثورة العظيمة في تونس. وإذ تلهج قلوبنا بالدعاء لإخواننا في مصر بالنصر، فمعركتنا في تونس لازالت في بدايتها.
في تونس، فإن ما حصل بالأمس في تفريق اعتصام القصبة السلمي المدني الرائع، يثبت أن معركة شعب تونس من أجل القضاء على الدكتاتورية ما زالت في بدايتها.. ما زال أمام شعبنا الكثير.. فما حصل بالأمس يقول بلغة فصيحة بليغة إن جهاز القمع البوليسي الذي حكم به بورقيبة، وحكم به المجرم الهارب ابن علي 23 عاما طويلة ثقيلة مرة، لا يزال هو هو.. لا يزال هذا الجهاز المجرم يتصرف من نفسه.. لا يرجع إلى وزير الداخلية.. يقرر ما يراه مناسبا له ويتصرف على ضوء مصلحته، وعلى ضوء خبرته، وفي ضوء تاريخه الدموي.
ما حصل بالأمس الجمعة 27 جانفي (يناير) 2011 في القصبة جريمة جديدة تثبت أن تونس مازالت في حاجة لإتمام ثورتها بالتخلص من هذا الجهاز المجرم.. هذا الجهاز كان وراء القمع، وكان وراء القهر، وكان وراء القتل، وكان وراء الاغتصاب، وكان وراء التعذيب، وكان وراء إهانة تونس كلها برجالها ونسائها.. على امتداد سنين طويلة مرعبة مخيفة ثقيلة.
هذا الجهاز كان جهاز جريمة منظمة، وعلى تونس أن تتقيأه وترتاح منه، لأنه إن بقي فيها سيصيبها بسرطان لا شفاء لها منه.. ما حصل بالأمس في القصبة استخدام إجرامي للغاز المسيل للدموع. وفي ما يلي بعض القصة.
**** ****
في الصباح كنت في الاعتصام، وبقيت هناك أتابع الحوارات، التي جرت بين المعتصمين. بدأ النهار بحضور وجوه عديدة جاءت لإقناع المعتصمين بفك الاعتصام.. بقيت أتابع ذلك حتى الساعة الثالثة ظهرا، ونجح المعتصمون في توحيد صفوف أغلبية كبيرة منهم.. أغلبية قررت البقاء في الاعتصام.. صليت الجمعة في جامعة القصبة، وظللت أتابع الحوارات حتى أنهكت.. ورأيت وجوها جميلة لشباب تونس..
رأيت شبابا وشيوخا.. رجالا ونساء جاؤوا من مدن وولايات عديدة، لا يعرف بعضهم بعضا، لكنهم كانوا منظمين بطريقة رائعة.. رأيتهم يتقاسمون الطعام في نظام بديع.. ورأيت حركة تضامنية عظيمة من الناس معهم.. رأيت قصاع الكسكسي والمقرونة الكبيرة والخبز تأتيهم بلا حساب ولا عد..
رأيت الناس كأنني أراهم في حلم.. لا صراعات ولا خلافات ولا مشكلات.. الكل يهتف بحياة تونس.. الكل مصر على رحيل الحكومة.. الكل يقر بحق الكل في الوجود.. الكل يهزج بالديمقراطية ويحاول شباب كثر إقناعي بها، وأنا أنظر وأبتسم، وأمتلأ فرحا وفخرا بشباب بلدي العظيم.. رأيت شبابا متدينين ومحجبات كثيرات، ورأيت شبابا يحمل صورة غيفارا.. وسمعت أهازيج وأناشيد دينية وتكبير وتمجيد للشهداء، وسمعت أغاني الشيخ إمام عيسى.. والكل في انسجام.. الكل في تناغم بديع.
ورأيت شبابا رائعين كالورد، ذكورا وإناثا، يجمعون المخلفات في أكياس بلاستيكية، في حركة حضارية عظيمة، أفشلت رهان المراهنين على الفوضى.. رأيت شبابا وقد شكلوا لجانا إعلامية للتعريف بمطالب المعتصمين.. وآخرون يتصلون بالانترنت ويزودون موقع الاعتصام على الفايس بوك بآخر المعلومات.. وآخرون يتابعون الفضائيات ويصرحون لها بما يجري في الاعتصام، ويبلغون صوت زملائهم للعالم..
رأيت خلال أيام متتالية وجه تونس الجميل، فالثورة تصنع الجمال، وتطهر القلوب والأرواح، وتنقي الضمائر، وتنشر البهاء والخير والسناء.
عدت منهكا للفندق لمتابعة العمل. وما كدت أستقر قليلا حتى جاءتني المعلومات تترى، تخبرني بأن الجيش انسحب.. تراجع للوراء، وأن قوات القمع تقدمت للأمام.. ثم هجمت بكميات مرعبة من الغازات المسيلة للدموع.. ضربت المعتصمين المسالمين بالعصي والهراوات والأدوات الكهربائية. فلم يكن أمام الشباب سوى الدفاع عن أنفسهم بالحجارة، كما فعل الفلسطينيون من قبل حين استنطقوا الحجر، وسجلوا به معجزة الانتفاضة العظيمة.
قررت الذهاب لمكان الاعتصام للاطلاع على الأمر عن كثب.. رافقني صديقي وزميلي الصحفي الرائع محمد الحمروني.. كنا نمشي عكس اتجاه الشباب المنسحبين من القمع.. قاوموا كثيرا ثم اضطروا للانسحاب.. لقد ووجهوا بكميات مرعبة قاتلة من العنف، وكميات قاتلة من الغاز الرهيب..
مضينا إلى الأمام.. كنا نصطدم بالشباب المنسحبين.. تقدمنا أكثر وأكثر، حتى وصلنا جامع الزيتونة العظيم، وحاولنا اجتيازه، ولكن دون جدوى.. كنا كلما تقدمنا أكثر تزايد أثر الغاز القاتل.. بدأت أختنق.. بدأ الصدر يضيق، والعينان تدمعان، والصدر يهتز كأن به جان.. حاولنا التقدم أكثر، لكن الجسد صار ثقيلا.. والأوكسجين بدأ يقل.. لم يعد بالوسع المضي أكثر.. لم يعد من حل سوى العودة.. رجلاي ثقيلتان، والصدر يهتز، والنفس قليل.
وحين بلغ الأمر مبلغه رآني بعض الشباب، وكانوا قد عرفوني من قبل من صحفيي الجزيرة، بادر أحدهم لإسعافي بقطعة ليمون، وبحفنة من حليب.. قالوا لي استنشق الهواء من قطعة الليمون.. استنشق أكثر وأكثر.. اغسل وجهك بالحليب ولا تحك عينيك..
وبدأ الحليب والليمون الطالعان من أرض تونس الخضراء ينجحان رويدا رويدا في تقليل شر الغاز القادم من وراء الحدود.. إنها حرب حقيقية بين ما هو وطني وما هو قادم من وراء البحار.. الشعب يقاوم وجوه الفرنكفونية السوداء والأمركة المجرمة، جماعة الولاء لما وراء البحار والحدود، ومثلما يقاوم الشعب فحتى الحليب يقاوم.. وحتى الليمون يقاوم.
عدت من القصبة في اتجاه باب البحر وشارع الحبيب بورقيبة. وما كدت أصل باب البحر، قرب مقهى دينار، حتى كان الشباب يتجمع من جديد، ويشرع في الهتاف ضد الحكومة وضد القمع.. ولم يمض سوى وقت قصير حتى جاءت الحوامة تحوم فوق رؤوسنا.. حامت الهيلكوبتر مرتين أو ثلاثة فوق الرؤوس، ثم فوجئنا بسيارات القمع تأتي مسرعة وتتدخل بقوة عمياء. وصلوا سريعا. وما إن وصلوا قفزوا من الأبواب، سبقتهم بنادقهم.. وشرعوا يطلقون القنابل المسيلة للدموع بشكل وحشي.. وعاد الغاز المجرم يملأ الجو..
إنه الجهاز البوليسي القهري يحضر من جديد.. إنها خبرة القمع تتجلى من جديد لتقول للتونسيين: لا تنسونا نحن هنا.. مضى ابن علي ونحن باقون.
لم يكن قرار القمع قرارا مركزيا.. لم يستشر جنرالات القمع رئيسهم السياسي، أي وزير الداخلية في الأمر. لقد ظهر الرجل وقال إنه لم يأخذ القرار ولم يستشر فيه ولم يعلم به.. عراهم سياسيا، وكشف عنهم الغطاء.. قال إنه لم يعلم بما حصل.. إنه الجهاز أيها التونسيون، فلا تنسوه، ولا تنسوا أن معركتكم من أجل الحرية لم تنته بعد حتى ينتهي هذا الجهاز المجرم.
لا أحد يريد الثأر من أحد.. لا أحد يريد الانتقام، ولكننا نريد أن نستكمل تحرير بلادنا من جهاز الإرهاب والقمع.. لا نريد لأيتام ابن علي أن يحكمونا بعد أن أسقط شعبنا ذلك الطاغية المستبد.. تقيأه شعبنا، وقذف به في الجحيم.. وعلى الشعب أن يتم المهمة بإكمال تخليص البلاد من بقايا الصنم.