lundi 31 janvier 2011

جزء من رواية شظايا، فتحية السعيدي /كتب هذا الجزء خلال صائفة 2010

كنت ورانية، نسير في الطريق في اتّساق تامّ هذه المرّة... كانت يدي تشبك يدها حين وصلنا إلى مؤسسة جامعية أخرى، قريبة جدا من الكلّية... محلاّت كثيرة تتصدّر الجهة المقابلة للمؤسسة، ومقهى صغير للعم فرج يكتظ بالطلبة والأساتذة...
جلست... كنت بحاجة إلى تجميع فتات نفسي المتشظية...
حيّاني وجلس، إنه الأستاذ الفيلسوف... مبتسما، واعدا، متطلّعا للأفق البعيد، كعادته...
قال: من فترة لم أرك... سافرت ثم عدت، وسافرت ثانية، وها أنا أعود من جديد...
قلت: ما جديدك؟
صمت، وكأنه يفكّر بأمر، ثمّ رفع رأسه قائلا:
هل تعتقدين بأنّه يمكن أن يكون لي جديد...
أقاطعه: إلاّ أنت... قد أقبل بأن ينام الجميع على صحون المطاعم وعلى كؤوس البيرة، وبين جدران المدينة... قد أقبل بهذا، عدا أنت... فمع كل كأس لك، فكرة جديدة ومع كل يوم لحن جميل وعند كل مساء جمال ممكن يبشّر بولادة طقس فريد...
أصمت، ثمّ أضيف: لولا وجودك هنا لرحلت بعيدا عن الهنا...
يرد: ألهذا الحد متأزمة؟
أجيبه:
وأكثر... وأكثر يا فيلسوف، الخواء يحيطنا، الضباب يلفنا... والزمن يمضي بسرعة رغم فعل الرتابة وتكرار العادة... ونحن نستسلم في كل لحظة لضغط اليومي... فكرنا يتعطّل تدريجيا ويتحوّل إلى وصف متكرّر وبليد لموجب العادة... وحق السماء، أشعر بأنني سجينة الحكاية...
يسألني متعجبا: أيّة حكاية؟
أجيب بنفس يكاد ينقطع مني: حكاية هذا الزمن... أو ربّما، حكايتي مع الزمن... لست أدري، تحديدا، هل هو الزمن بمعزل عنّي أم أنا في متن الزمن؟؟
أصمت ويصمت، ونحن نتبادل النظر مع سؤال الحيرة ونكران العادة وموجب الفعل الذي كاد أن يندثر...

كانت رانية قد استأذنت منّي لتلحق بجمع من الطلبة الجالسين بالقرب من طاولتي... يصلني صوت قيثارة ينعش النفس، يصحبها لحن جميل وصوت يصدح بكلمات درويش:
عودوا أنّى كنتم... غرباء كما أنتم...
فقراء كما أنتم، يا أحبابي الموتى، عودوا
حتّى لو كنتم قد متم...
صمتا... صمتا، من هذا الطارق أبواب الموتى؟
يا هذا الطارق من أنت؟
أيكون العالم؟
في تلك الأثناء، يصل جاك، أستاذ الحضارة الفرنسية... يحيينا ويجلس، يبتسم وهو يقول في إشارة للطلبة الذين يحيطون عازف القيثارة: إنهم يذكّرونني بماي 68... تصلني ضحكة عالية من الفيلسوف، في الوقت الذي كنت أستمع فيه لبقية الأغنية...
يا هذا الطارق أبواب الموتى... ما بك تفزعنا وتقض مضاجعنا؟
فارجع لا تفزعنا... لا تحرمنا النسيان...
يا أحبابي الفقراء... يا أحبابي الغرباء
كنتم أبدا عظماء، كنتم أبدا عظماء

كنت منسجمة مع نشيد الموتى، مأخوذة إلى عالم سحري... شعرت بارتياح عميق في داخلي، وأنا أردد: ما زال يوجد أمل... ما زلنا أحياء... مازالت نفوسنا وعطرنا وبعض من سمائنا هنا... ياه، في هذا النشيد نفس من التفاؤل، فيه روح من العطاء، وامتنان وذكر طيب لما مضى...
هل استمتعت بهذا الشدو يا فيلسوف؟
يجيب: مؤكّد إنّه كمثل لفحة النسيم في لحظة قيظ وحرّ شديد...
وأنا أسمع للفيلسوف، ألتفت إلى جاك، قائلة:
قلت بأنهم ذكّروك بماي 68... فهل كنت قد انتميت إلى تلك الحركة؟
يبتسم، ولا يجيب...
يقاطعني الفيلسوف، وهو يضحك... الفرنسيون يتحدّثون في كل المواضيع عدا معتقداتهم السياسية...
أرد: كيف؟ ولماذا؟
يجيبني: بإمكانهم أن يناقشوا معتقداتهم داخل الأطر الخاصة بذلك، ولكن ليس خارجها إلاّ نادرا...
يسترسل:
لقد درست بفرنسا وعشت طويلا هناك: هم لا يناقشون هذه المسائل حتى داخل بيوتهم، مثلا، عندما ينتخبون، لا أحد منهم يصرّح لمن انتخب ولمن لم ينتخب حتّى وإن كانت هذه الانتخابات تخص نقابة الطلبة أو أي هيئة مدنية لا حجم لها... إنهم يضفون نوعا من القداسة على الممارسة السياسية لديهم...
يؤكّد جاك، كلام الفيلسوف ويضيف:
أنا لم أكن ضمن حركة ماي68 بل أنني لم أكن أحب الماركسيين...
أجيبه: أنت حرّ في رأيك، ولكن هل لي أن أعرف لماذا؟؟
يرد: لم أكن أحب ذلك الجوهر الستاليني للماركسيين... إنه جوهر توتاليتاري، استبدادي، وهو يعكس نظرة أحادية تقصي كل من دونها وكل ما هو مختلف من حولها...
يقاطعه الفيلسوف: الإيديولوجيات، جميعها منغلقة على نفسها، ومع ذلك لا يجب أن تُجمع... يبدو لي أنه من الضروري الفصل بين ماركس والماركسيين وبين المفكّرين الماركسيين الذين أنتجوا معارف ونظريات وبين ممارسي الفعل السياسي... تماما، مثل الفصل بين يسوع والإنجيليين.
يتابع...
يوجد فرق ذو دلالة بين هذه التقاطعات، ربّما يمكننا أن نفسّر من خلاله انسحاب عدد من النخب الفكرية من حقل الفعل الاجتماعي... هذا بخصوص اليساريين...
يلتفت إلي ويتابع:
لاحظي، يعتمد الإنجيليون على الكتاب المقدّس القديم l’ancien testament ... ولقد استغل جورج بوش هذا في حربه على العراق... إن هذه النزعة التي بدأت تسيطر على العالم الغربي لا تعني بأن الإنجيل أو الرسول عيسى عليه السلام، هو الذي يدعو إلى التعصّب الديني لدى المسيحيين... ولكن الممارسات والمعتقدات التي ائتلف حولها الإنجيليون هي الخاطئة...
كان جاك، يستمع بانتباه إلى كلام الفيلسوف ويؤيّده من خلال إشارات وحركات الرأس والوجه... وكنت أتابع في صمت، عندما قال جاك:
أنا بروتستانتي... هذه ديانتي، طبعا بالوراثة... وحمدا لله بأنني لم ألد كاثوليكيا... ثمّ أنا اشتراكي ديمقراطي... يمكن أن تعتبرونني كذلك...
يصمت، ثمّ يضيف:
أنا في الواقع غوليست Gaulliste نسبة إلى شارل دي غول... لقد استعرنا منه مفهوم الأمّة/الدولة، وعددا من المفاهيم الأخرى...
أنظر له في صمت، وهو يتابع...
أذكر بأننا كنا نصطف أمام التلفزيون كلّما كان ثمّة خطاب له... للأسف اليوم، تمّ تحريف مسار شارل دي غول...
ابتسم وهو يتابع:
لا يعني أنني مع كل المواقف السياسية للحزب الاشتراكي الديمقراطي...
يرد، الأستاذ الفيلسوف:
أعتقد بأنه من الغبن أن يكون الواحد منّا مع كل المواقف السياسية المرتبطة بظروف ورهانات اللحظة السياسية وما تفرزه من تطلّعات...
يجيبه، جاك:
فعلا، تصوّر بأننا داخل ذات التنظيم الواحد نساند ونثمن قرارات القيادات، ممّا لا شك فيه، سنشرّع بدون وعي منا، لتقديس القادة وإضفاء معنى من القدسية على القرارات السياسية رغم علمنا بأنّها ظرفية ومرتبطة بمتغيرات... ربما، هي متغيّرات، تمليها طبيعة اللحظة السياسية ذاتها...
يبتسم، ثم يواصل:
لقد ودّعنا التقديس مع لويس الرابع عشر... الممارسة السياسية بشرية بامتياز، أليس كذلك؟ وهو يتوجّه لي بالخطاب...
أمممم، موافقة على رأيك ولكن... أصمت...
ولكن، هذا يتطلّب استبطانٍ وتبنٍ لما تعنيه الثقافة المدنية أو الديمقراطية وهذا ليس أمرا بسيطا وهيّنا في مجتمعاتنا العربية مثلا... الذهنية العربية، لم تتخلّص من فكرة الواحد الأحد، القهّار الذي يملك الحلّ، معه تبدأ الحلول وإليه تنتهي كل الوجوه...

وأنا أتحدّث إلى جاك، أحاول تغيير وجهة الحديث والعودة إلى نقطة البدء، فأقول له:
أنا أفهم كرهك لستالين، اسمح لي أن أقول لك بأن كرهك نابع من موقف انفعالي عاطفي...
يقاطعني وقد احمرّ وجهه، قائلا: هل تنكرين، بأن ستالين قد كان ديكتاتوريا؟
أجيبه: لا أنكر ذلك، فأنا لا أقدّس الرموز ولكن أعترف لهم بمزايا وبمساوئ أفعالهم...
أغيّر وجهة كرسيي وأجلس قبالته، وأنا أقول: لا أحد منّا يمكنه أن ينكر مواقف انفعالية تصدر منه، نحن البشر مركّب عجيب من العاطفة والانفعال والعقل والتعقّل... يهزّ جاك رأسه موافقا، وأتابع...
منذ حين، تحدّثت بكثير من الترّدد العاطفي والوجداني عن شارل دي غول... وجميعنا يعلم بأن شارل دي غول قد تمّت مناهضة حكمه من قبل اليساريين المتشبّعين بالفكر الماركسي الستاليني على وجه الخصوص، ومن نتائج حركة ماي 68 ، استقالة شارل دي غول في 69 ثمّ موته بعد سنة من تاريخ استقالته منفيا... هذا لا ينفي أبدا وطنية الرجل وبناءه لفرنسا واستعادته لمكانة لها بعد الحرب العالمية الثانية، ودعوته لبناء الاتحاد الأوروبي كقوّة ثالثة موازنة لقوّة الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي آنذاك...
هذا الإرث التاريخي المترسّب في المخيال الفردي كما الجماعي هو الذي يقودنا أحيانا، وربما، دوما إلى تسويق مواقف انفعالية قد نبحث لها عن مبررات عقلية أو عقلانية في مرحلة ثانية... بمعنى آخر، أنت في الواقع لا تدافع عن شارل دي غول كشخص، بل تدافع عن معتقدات راسخة بداخلك قد مثّلها الرجل بمعزل عن انحراف مساره السياسي... صدّقني، جميعنا يمارس نفس الشيء بعناوين مختلفة...
إننا في الأصل ندافع عن كينونة ذاتية خاصّة... كينونة بناها كل منّا من موقعه الخاص ومن خلال تجربته الخاصّة، لذا عندما ندافع عن شخص إننا ندافع في ذات اللحظة عن أنفسنا وعندما نناهض شخصا فلأننا نرفض في الأصل المساس بهذه الكينونة التي تميّز وجودنا وتفرّدنا... نحن في الأصل لا نقبل الغير بسهولة ولا نعترف بما له وبما عليه بسهولة... إنه فعل الأنا في صراعها الإنساني بين الذاتية والغيرية... فكّر معي بكل ما قلت يا جاك، ربما تجد بعض المنطق في ما أقول... أنا لا أدافع لا عن مسار شارل دي غول ولا عن مسار ستالين السياسي... ولكن أنظر لهذا وذاك قربا مني وبعدا عني... قد يكون لي نفس موقفك أو نفس ردّة فعلك إن تعلّق الأمر بشخصيات سياسية أو ثقافية أو تاريخية أخرى...
أصمت قليلا وأنا أحاول تحسّس ملامح وجهه لأتبيّن ردة فعله... ثم أتابع:
نحن نتاج أنفسنا، أي تجاربنا أوّلا، ونتاج مجتمعنا وثقافته ثانيا، ثمّ نتاج استعداداتنا النفسية والثقافية في مجال صراعنا مع الانفتاح والانغلاق...
أصمت عندما أرى جاك يلوي عنقه، وينسحب في كرسيه ولا يجيب...
كان الفيلسوف، يهز رأسه، مؤيّدا ومفكّرا بما قلت... ثمّ...

يخيّم الصمت... صمت ثقيل... وأنفاس تتردّد بسرعة تعبّر عن غليان... عن شظايا تتكوّم عند ذاك المنحدر من فوهة المكان... انغمس كل منّا في قعر فجنان قهوته، الفيلسوف وأنا... عدا جاك الذي كان يتطلّع في كل الوجوه التي تحيطه... يصلنا صوته الذي يقطع الصمت الذي كان كل واحد منّا قد تحصّن فيه:
قد أغادر في السنة الجامعية المقبلة...
إلى أين؟ يسأله الفيلسوف...
لست أدري؟ لقد تقدّمت بملف إلى وزارة الخارجية منذ ثلاثة أشهر وأجريت اختبارا... وأنا أنتظر الآن النتيجة... قريبا سيخبرونني، يهمهم...
يرد الفيلسوف بشيء من الاستغراب:
لماذا تترك مكانك بالجامعة؟ أنت أستاذ، ولك رسالة... لماذا هذه النقلة العجيبة؟؟؟...
ثم يبتسم، وهو يقول لجاك مازحا: طبعك اليميني، يغلب عليك... ربّما، ستصلح ما تعتبره انحرافا عن مسار شارل دي غول...
يطأطئ جاك رأسه، ثم ينحني وكأنه يشهد نوعا من الهروب من نفسه، ثمّ يرفع رأسه، وهو يقول:
كان قراري انفعاليا، بعد كل تلك المشاكل التي واجهتها هنا على امتداد السنة الجامعية الماضية... يصمت وهو يطلق زفرة تزعزع الكيان...
فنحية السعيدي/ أوت 2010