كانت تعيش البلاد زمن الفرد الواحد ، والحزب الواحد ، وتعوّدت الآذان على صوت واحد ، صوت الحاكم المعصوم من الخطأ ، الحاكم الذي يسأل و لا يسأل ، ومع ثورة 14 جانفي 2011 ، تعدّدت الأصوات ، وتنوّعت الألوان والاتجاهات ، فخرجت علينا الأدبيّات من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ، ولكن غلبت على الخطابات صفة الكليانيّة ، والشموليّة ، والحديث باسم الشعب ، وغابت بذلك صفة العقلانيّة ، والخطابات الهادئة ، فعند الإسلاميين " الشعب يريد تطبيق الشريعة " وعند القوميين " الشعب يريد الوحدة العربيّة " وعند اليسار المتطرّف " الشعب يريد دكتاتوريّة البروليتاريا " وفي القصبة " الشعب يريد اسقاط الحكومة " وفي المنزه " الشعب يريد محمّد الغنوشي " في حين يمكن لتونس أن تعيش الفكر الوسطي ، والتوازن السياسي ، فلا إفراط ولا تفريط … فهل لدينا رؤية اقتصاديّة ناضجة ، تخرجنا من بؤرة الفقر، والخصاصة ، والبطالة لنطبّق حدّ قطع يد السارق ؟ وهل الشاب التونسي اليوم قادر على فتح مؤسّسة عائليّة يحفظ بها فرجه ، لنطبّق بعد ذلك حدّ الرجم ، أليست روح تعاليم الإسلام غايتها القصوى الحفاظ على الجنس البشري ، والحفاظ على كرامته وإنسانيّته ؟ والعبرة في هذا الباب بالغايات وليست بالنتائج ، فهل وفّرنا مقوّمات الكرامة الإنسانيّة لنقيم في الناس الحدّ؟ وتونس هذا البلد المنتمي للوطن العربي الذي يشترك معه في الأرض والدين واللغة والتاريخ ، قادر على أن يكون ذا هويّة خاصّة تميّزه عن بقيّة الهويّات ؟ وهل من السهولة بمكان أن يرمي الشعب التونسي وراء ظهره بتراثه الثقافي ، والديني الذي ورثه جيلا عن جيل ، واستبطنه على حدّ تعبير علم النفس ، لنطالب اليوم بنظام لائكيّ يقطع مع الفكر الديني ، وحكم الله على الأرض ، وهل في الإسلام ما يفيد بأنّ هذا الدين ينتصر لفكرة ظلّ الله الممدود والحاكميّة لله ؟ أليست حادثة سقيفة بني ساعدة خير دليل على أنّ الحاكم بشر يختاره بشر مثله ، وهل أقيمت محاكم التفتيش على امتداد التاريخ الإسلامي ؟ " إنّك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء " ألم تكن هذه هي سياسة الإسلام التي اختزلتها الآية آنفة الذكر ؟ فلم ننتصر اليوم في تونس إلى اللائكيّة ، في حين لا شيء يوحي بما يزرع فينا الخوف من الشريعة الإسلاميّة ؟ إنّ ثورة تونس اليوم تعيش متأرجحة بين يمين الفكر ويساره ، كلّ يغنّي على ليلاه ، وقد كبر فينا الفكر" الديقاجي " نسبة إلى الفعل الفرنسي " ديقاج" ، فبتنا نعيش على الفكر الإقصائي و الإلغائي ، ففريق يقصي فريقا باسم الثورة والشعب ، حتّى أصبحت الثورة مقصلة ، نرفعها في وجوه خصومنا السياسيّين ، ولو نعمل بمقولة " ديقاج " ، فسننهض ذات صباح فنجد تونس أرضا بلا سكّان ، مادام الإسلاميّ يكفّر الشيوعيّ وينادي بإلغائه وقد نسي ما أقدم عليه الخميني باسم الثورة الإسلاميّة ، وتقتيله لآلاف العراقيين إبّان الحرب الإيرانيّة العراقيّة ، والشيوعيّ ينادي بالتصدّي للفكر الظلامي والقروسطيّ وقد خانته الذاكرة ونسي مظالم ستالين ومشانقه ، والقوميّ ينادي بالتصدّي للفكر القطريّ والمنتصر للهويّة القطريّة ، ولم يتمثّل صدام حسين الذي قتّل آلاف الأكراد والشيعة ، ولكن ما آلمني هو انخراط كتّاب تونس ، في الثقافة" الديقاجيّة " ، والحال أنّ من ناشد كمن كان صامتا ، فالجميع يعيش في زنزانة كبيرة ، يحكمها الفرد بالحديد والنار، في شخص زين العابدين بن علي ، ولم يتجرّأ أحد قول "لا " باستثناء شخصيّات وطنيّة على غرار احمد نجيب الشابي ، وحمّة الهمّامي ، وأحمد إبراهيم ، ومصطفى بن جعفر ، ومحمّد عبّو ، وراضية النصراوي، وبعض القاضيات الفضليات مثل كلثوم كنّو، وبعض الإعلاميين ، مثل زكية الضيفاوي ، والفاهم بوكدّوس ، أمّا البقيّة الباقية ، فكانت بين مناشد ، أو صامت ، أو مستقيل من الشأن العام ، وللخروج اليوم بتونس من عنق الزجاجة يجب أن نقلع عن ثقافة التشفّي ، وثقافة التجريح ، وثقافة نصب المحاكم في الساحات العامة ، فالجميع لتونس ، وتونس للجميع ، إلاّ من تلطّخت يداه بدم الشهداء ، أو المال العمومي ، أمّا أن يحاسب تونسي لانتمائه لحزب دون آخر ، أو لمناشدة ، أو لمقال كتبه ، فهذا من قبيل العنتريّات التي ستحيد بالثورة عن أهدافها … فأين كانوا من تكلّموا اليوم باسم الثورة ، يوم وقع الإعتداء على الحوض المنجمي ، وهل لديهم مواقف يذكرها التاريخ يوم وقع الاعتداء على الصخيرة وبني قردان ، ولم لم يعارضوا بن علي يوم أعلن عن ترشّحه لفترة رئاسيّة خامسة ، لقد قاد الثورة شباب تونس بعيدا عن المثقفين والسياسيين ، واليوم تونس أمانة في أيدي أبنائها كلهم : إسلاميين وشيوعيين وقوميين ولائكيين وليبراليين ومستقّلين ومستقيلين وتجمعّيين لم يتورّطوا في الفساد والقتل والتعذيب ، علينا أن نؤمن بالتعدّد ، والنسبيّة ، ونقطع مع الإطلاقيّة ، لكي لا نكون سفسطائيين في مدن الفلاسفة … من ديكتاتوريّة الفرد إلى ديكتاتوريّة الثورة
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire