هذا التقرير أعده المجلس الوطني للحريات بتونس في أكتوبر 2002 بعنوان :ـ
المحــــاكمـــة المـنـعــــــرج
انتصاب المحكمة العسكرية ببوشوشة و باب سعدون خلال صائفة سنة 1992
شكّلت القضية التي نظرت فيها المحكمة العسكرية في صائفة سنة 1992 منعرجا حقيقيا في الحياة السياسية بتونس في "العهد الجديد". فقد كانت نقطة انطلاق الآلة التي طحنت عموم المجتمع المدني و السلط المضادة الناشئة بتونس.ـ
كما شكّلت تلك المحاكمة محطّة هامة في تاريخ القضاء بتونس من وجه اختبار حقيقة التغيير الذي زعمت السلطة أنّها دشّنته..ـ
ففي هذه المحاكمة تكرّست تبعية القضاء و فيها وقع تهميش الدفاع و ضرب حق المحالين في الدفاع حيث انتهك هذا الدفاع في وضح النهار و بكلّ استهتار.ـ
و في هذه المحاكمة حصلت آلة التعذيب على غطائها الشرعي و من حصيلتها تكوّن السواد الأعظم من المساجين السياسيين بتونس حيث صدر على إثر هذه المحاكمة 46 حكما بالسجن المؤبّد.ـ وهكذا تكرّس الحكم البوليسي و دعّم أركانه.ـ
إنّ هذه المحاكمة لا تمثّل على وجه التحقيق سابقة في توظيف السلطة للقضاء. فقد وجدت أزمات في تاريخ القضاء التونسي مثل أزمة اليوسفية سنة 1957 مرورا بتأسيس محكمة أمن الدولة سنة 1968 لقمع الحركة الشبابية اليسارية ثمّ الأزمة النقابية سنة 1978... كلّها قامت كأمثلة على هذا التوظيف.ـ غير أنّ هذا لا يمنع من اعتبار هذه المحاكمة الحدث الكبير في سوئه الذي طبع العشرية الأخيرة من تاريخ تونس.ـ
فعلاوة على ما نتج عن هذه المحاكمة من خراب ما تزال تونس تدفع إلى اليوم ثمنه، فإنّها تمدّ آثارها وتلقي بظلالها السوداء على مستقبل تونس و ترهنه. و هذا هو بالضبط ما دفع المجلس الوطني للحريات بتونس إلى تسليط الأضواء، و بلا أدنى مجاملة لاي طرف، على هذه المحاكمة التي بقيت تحت حصار الصمت، وذلك قصد تفكيك الميكانزمات المتعدّدة التي حكمتها.ـ
السيـــاق العــــــام
أحالت السلطة بتونس، خلال الفترة المتراوحة بين 9 جويلية و 30 أوت 1992، 279 مواطنا أمام القضاء العسكري صلب القضية الأولى عدد 76110 التي نظرت فيها المحكمة العسكرية ببوشوشة و القضية الثانية عدد 76111 التي نظرت فيها المحكمة العسكرية بباب سعدون بتهمة التآمر و العمل على تغيير هيئة الدولة.ـ
و قد شكّلت هذه المحاكمة منعرجا في الحياة السياسية بتونس. فإضافة إلى ما رمت إليه السلطة من خلالها من تصفية أحد الخصوم السياسيين رأت فيه قوة مهددة لهيمنة الحزب الحاكم على الحياة العمومية بعد تجربة الانتخابات المزورة لسنة 1989، فقد جعلت منها في الآن ذاته فرصة لتحجيم الجيش الوطني حيث طال القمع العديد من الضباط السامين به.ـ
و في الواقع فإنّ الإحالة على القضاء العسكري التي وزعت صلب قضيتين اثنتين (بالرغم من أنّ أوراق الملف هي ذاتها في القضيتين)، كشفت عن وجود ثلاثة قضايا منفصلة تم النظر فيها في آن واحد، و هي قضية قياديي حركة النهضة و كوادرها، و القضية المتعلّقة بالمجموعة الثانية التي عرفت بـ"طلائع الفداء" و قضية "اجتماع براكة الساحل" و التي أحيل فيها كبار ضباط الجيش بتهمة "محاولة قلب النظام".ـ
و ما يتعيّن التذكير به هو أنّ المحكمة العسكرية قد برأت ساحة الضباط المحالين عليها صلب ما أطلق عليه اجتماع "براكة الساحل" التي ثبت أنها كانت من محض تلفيق جهاز أمن الدولة الذي تولّى الأبحاث فيها.ـ
إلاّ أنّ السلطة رفضت ردّ الاعتبار إليهم و اعترضت على عودتهم إلى سلكهم، و لم يكن سنّ البعض منهم يتجاوز الثلاثين إلاّ بقليل. كما يذكر أنّ عملية تطهير الجيش هذه و التي طالت حوالي الخمسين من كبار ضباطه، تمّت بالنسبة للعدد الأكبر دون إحالة على المحاكم و إنّما إثر إيقاف لمدة قصيرة و دون توجيه تهم محدّدة إليهم (راجع الملحق عدد 4 ).ـ
و قد كشفت هذه المحاكمة حقيقة تهميش المؤسسات بالبلاد و ظهور جهاز البوليس بمظهر الماسك بزمام السلطة. فقد تم بسط نفوذه المطلق خلال تلك المحاكمة، إذ تمّ بواسطته إشاعة أجواء من الترهيب والخوف و ذلك سواء عبر تدخلها غير الشرعي في تنظيم المحاكمة و سير إجراءاتها أو من خلال التأثير على وسائل الصحافة الممالية، أو باسكات أصوات الهياكل المستقلّة من المجتمع المدني.ـ
في هذا السياق يجدر التذكير بالأحداث التالية :ـ
أفضت الانتخابات التشريعية التي نُظمت يوم 2 أفريل 1989، و التي تميّزت بتشجيع السلطة لظاهرة الاستقطاب الثنائي بين الحزب الحاكم و حركة النهضة الاسلامية، إلى احتكار الحزب الحاكم للمجلس النيابي و هو ما ولّد شعورا بالخيبة.ـ
تم وضع المنظمة النقابية – الاتحاد العام التونسي للشغل – تحت وصاية السلطة إثر مؤتمرها الذي انعقد بمدينة سوسة في أفريل1989.ـ
تنتهز السلطة سنة 1991 أحداث حرب الخليج لتشد الخناق على الصحافة انتهت باحتجاب عدة عناوين مستقلة و هو ما حدا بحوالي 300 من المثقفين إلى توقيع نداء للاحتجاج على وضع الإعلام.ـ
- في نهاية سنة 1990 وبداية سنة 1991 نظم الطلبة و التلاميذ عدة مظاهرات و تم ايقاف العديد ممن يعتقد أنّهم أنصار لحركة النهضة من طرف البوليس. و بمناسبة وفاة أحد التلاميذ حصلت مواجهات عنيفة بين الطلبة الاسلاميين (الذين لجأوا أحيانا إلى رمي الحجارة و قوارير المولوتوف) من جهة و قوات البوليس من جهة أخرى.ـ
- و في نهاية السنة الدراسية 1990-1991 استغلّت السلطة صدامات عنيفة دارت بالمركب الجامعي بين قوى البوليس و الطلبة الاسلاميين لتعلن حل الاتحاد العام التونسي للطلبة و فرض الوجود البوليسي القوي داخل المؤسسة الجامعية و سن ترتيبات قانونية تعوق حرية التعبير و النشاط النقابي للطلبة ( منشور وزير التربية بتاريخ 12 مارس 1991).ـ
- خلال فيفري 1991 هاجم بعض ممن يعتقد أنّهم أنصار لحركة النهضة مقر لجنة تنسيق الحزب الحاكم بباب سويقة، و هو ما أدّى إلى نشوب حريق و وفاة أحد الحراس في ظروف مسترابة. و تم إثر ذلك إحالة 28 شخصا و صدرت في حقهم أحكام قاسية بالسجن إثر محاكمة مستعجلة وصلت حد الإعدام الذي شمل خمس منهم. و في أكتوبر 1991 تم شنق ثلاثة من المحكوم عليهم بالإعدام.ـ
و حصلت خلال السداسية الأولى من سنة 1991 حملات إيقاف واسعة في صفوف المنتسبين إلى حركة النهضة و أنصارها و قد تم في المدة المتراوحة بين أفريل و جوان 1991 إيقاف العناصر التي ستحال على القضاء العسكري خلال شهر أوت 1992.ـ
- عقد يوم 22 ماي 1991 وزير الداخلية ندوة صحافية – بثت عن طريق التلفزة - "ادعى" خلالها عن وجود مؤامرة لقلب نظام الحكم خطّط لها عناصر حركة النهضة.ـ
- أصدرت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان بلاغين الأوّل خلال شهر جوان و الثاني خلال شهر ديسمبر من سنة 1991 ندّدت فيهما بالموت المستراب لأربعة من الموقوفين بمخافر البوليس وبظروف الإيقاف فيها و انتهاك الشرعية من طرفه. وطالبت بفتح بحث في الموضوع. و ردّا على ذلك شنّت السلطة حملة تشويه إعلامية بواسطة الصحافة الموالية لها ضد الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان و اتهمتها بالتواطؤ مع الاسلاميين وتجاوز اختصاصها طبق القانون الأساسي المنظّم لها. و أردفت السلطة حملتها تلك بـسن "قانون التصنيف" رمت من خلاله إلى استبعاد العناصر المناضلة من قيادة الرابطة وإلى احتواء الرابطة بإغراقها بمنخرطين موالين للسلطة.ـ
- خلال جوان 1991 و بتكليف رسمي من السلطة تشكّلت لجنة برئاسة الرشيد إدريس، الذي كان يحتلّ آنذاك منصب رئيس الهيئة العليا لحقوق الإنسان و الحريات الأساسية، قصد البحث في حالات الوفاة التي سجلت بمراكز الأمن...ـ
- انتهزت السلطة إيقاف المسار الانتخابي بالجزائر (جانفي 1992 ) و ما نتج عنه من أعمال عنف لتبرّر سياسة الأمن الشامل و ذلك بدعم دوّلي.ـ
- يوم 13 جوان 1992 قرّر المجلس الوطني للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان رفض تعديلات القانون الهادف إلى ضرب استقلالية قرار الرابطة، و التي دخلت حيز التنفيذ و أعلن عدم إذعانه لأحكامها. وبعد حوالي ساعة من الإعلان عن موقفها ذلك قرّر وزير الداخلية آنذاك حلّ الرابطة و وجّه انذارا بإخلاء مقرّها. و بقيت منحلّة إلى نهاية شهر أفريل 1993 و ذلك عشية التئام القمة العالمية لحقوق الإنسان. و تم دعوتها لتغيير قيادتها خلال مؤتمر فيفري 1994.ـ
و في تاريخ انعقاد المحاكمات لدى المحكمة العسكرية الذي بدأ يوم 9 جويلية 1992 لم يكن هناك أي منظمة وطنية تتولّى مهمة الملاحظ لسير الجلسات بها. إذ لم يتولّ ذلك سوى موفدي منظمة العفو الدولية الذين حرّروا تقريرا جيدا في أعمالهم. أمّا الأحزاب السياسية بتونس فقد التزمت حيال الحدث صمتا رهيبا.ـ
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire