قام
العديد من المحلّلين السياسيّين , و الاقتصادييّن (1) النظر في أسباب ثورة تونس التي أدّت في 14 جانفي 2011 الى هروب الرئيس بن علي الى الخارج ,و ما تلاها من ارتباك حكومي وضغط شعبي و يمكن حوصلتها في ثلاثة مجموعات من الأسباب :
1 ــ الأسباب الاقتصادية و تأثيراتها الاجتماعيّة / " كما تحكمون يحكم عليكم"
أ . تركّز الأنشطة الاقتصاديّة المشغّلة على السّاحل الشرقي , بين العاصمة و السّاحل بصفة أساسيّة , و ذلك لتفاوت حجم الاستثمارات و نوعيّة البنى التحتيّة , من جهة أولى , و تبعيّة الاقتصاد التونسي للاقتصاد الاحتكاري العالمي , من جهة ثانية .
ب . استفحال ظاهرة الفساد المالي و المحسوبيّة المرتبطة بدوائر عائليّة ضيّقة , من شبه مافيويّه الى مستبدّة (2)
ج . خصوصيّة منطقة سيدي بوزيد , التي شملتها اصلاحات مائيّة , استفادت منها أقلّيات رأسماليّة دون مجموع المزارعين الصّغار .
د . ارتفاع ملحوظ لنسب بطالة الشباب , خاصّة من أصحاب الشهائد العليا , التي تصل الى حوالي نصف مجموع النشيطين .
2 . الأسباب السياسيّة , الأمر بالطّاعة والنّهي عن النّقد
أ . نظام الاستبداد الرئاسي , و الذي جاء , اثر عمليّات متواصلة لتنقيح الدّستور مع تواصل فرض عزل المعارضة و مؤسّسات المجتمع المدني بالتوازي مع تغويل دور الحزب الحاكم وتغلغله في كلّ مؤسّسات الدّولة
ب . الضّمانات الامبرياليّة أو المهمّة المستحيلة , طالبت الحكومات الامبرياليّة الكبرى ,دول العالم النّامي فتح أسواقها و تأمين طلبها الاحتكاري من الموارد الطبيعيّة , في اطار مخطّطات ادماجها في اقتصاد عالمي غير متوازن , يتطلّب من هذه الدّول الضعيفة اتّباع منهج تخلّي الدولة التدريجي عن خدماتها الاجتماعيّة . وهو ما لم تنجح هذه الأخيرة في صنعه الاّ بسياسة الحديد والنّار . المكلّفة والمحرجة , وهي المهمّة المستحيلة لنظام بن علي , فامّا أن يخسر الحكومات الغربيّة الرأسماليّة أو يخسر شعبه , وفي الأخير سيخسر الكلّ .
ب . قمع الحريّات وعدميّة اللّغة الخشبيّة . شهد المواطن التونسي , طيلة ثلاث وعشرين سنة ,على الأقلّ , عديد التعدّيات على حريّاته الفرديّة والجماعيّة , ابتداء من قمع حريّة النقد والتعبير الى منع حريّة التظّم و التظاهر , والتي قابلها اعلاميّا و رسميّا خطاب متخشّب , يحلّل الدّفاع عن الشيطان و يغطّي وجه الشّمس بغربال مقعور .
ج. غياب مناهج استقطاب الشباب و الفئات المحرومة و تقليديّتها , مع شكليّة التعامل مع مطالبها الجوهريّة في المشاركة و البناء , وهو أمر ينسحب تقريبا بنفس الطريقة على كلّ الأحزاب و الجمعيّات .
تعتبر العديد من الدراسات , أنّ أحد أهمّ وسائل السيطرة على أغلبيّة المحرومين , تمثّلت في نشر ثقافة التسلية و الترفيه لتقنين الاحتجاج وتحويله عن شرعيّة طلب المشاركة السياسيّة و الاقتصاديّة (3) , وهو ما طبّقته السلطة التونسيّة بكلّ حزم , منذ التسعينات . لكنّ تعثّر الانجازات الوطنيّة ( كما كان يطلق عليها في الاعلام) و تكاثر المشاكل و وضوح الاختلالات الجهويّة , مع تطبيق نفس السياسة البوليسيّة على جمهور الكرة , جعل من مدارج الملاعب وشوارعها في سنوات خلت , حديقة تدريب لخوض معركة الحريّة ضدّ أجهزة نظام بن علي .
ب . تطلّعات الشباب المتعلّم ,ميلاد انتلجنسيا (4) أصبح من البيّن لدى جميع المتتبّعين للشأن التونسي أنّ الشباب التونسي , يتمتّع بثقافة ودرجة تعلّم محترمة جدّا , مقارنة بدول جواره . و هذا للتذكير لم يكن فقط نظرا لما أنجزه الحبيب بورقيبه , اثر الاستقلال , لأهمّيته , وانّما جاء طلب الحقّ في التعلّم و مجانيّته , متوائما مع مطالب الانتلجنسيا "التقليديّة" منذ بداية القرن العشرين .
نحن الآن بصدد تكوّن انتلجنسيا جديدة , لم تتكوّن هذه المرّة في المدارس الفرنسيّة , كسابقاتها في العشرينات و الثلاثينات أو في السبعينات . وانّما تكوّنت في المدارس التونسيّة بأساتذة تونسييّن . و لن يفاجأ أحد في تونس اذا أكّدت أنّ هذه الانتلجنسيا الجديدة , ذات توجّه تحرّري أقرب الى المدنيّة منها الى التديّن . وجدت في الانترنت , مجالها الهندسي(5) للتفاعل مع المسكوت عنه والمحرّم و رأس حربتها لمواجهة الدعاية الديكتاتوريّة و الدعاية لاسقاطها .
لذلك أعتقد أنّ مصير الثورة ومسارها المقبل , سيكون , هنا على الانترنات, بين يدي هؤلاء ,الذين استطاعوا في كلّ مرّة أن يتفاعلوا بصدق مع المطالب الشعبيّة , ويقاوموا كلّ مظاهر التشتيت والتشويه , المتواصلة الآن على المواقع الالكترونيّة , و التي ليست الاّ مواصلة لسياسة الأرض المحروقة (6), المنتهجة من طرف أتباع بن علي .