د ـ الحرية الدينية وحكم الردة
كثيرا ما يُعترض على اعتبار الإسلام مشرعا للحرية الدينية بأنه يمنع الخروج من المعتقد الإسلامي بعد اعتناقه، وهو المعروف بحكم الردة الذي جاء حكما قاطعا في التحريم، قاسيا في العقوبة، فإذا كان الإسلام على قول هؤلاء يشرع لحرية الدين فلماذا يمنع أن يكون الإنسان حرا في الخروج من الإسلام كما كان حرا في الدخول إليه؟ إنه على رأيهم إذن ضرب من الإكراه يتناقض مع الحرية الدينية.
وفي التعليق على هذا الاعتراض إضافة إلى ماهو معهود متداول في هذا الشأن يمكن القول إنّ ما جاء في تعاليم الإسلام من منع للردّة، ومن حكم مغلّظ في شأنها إنّما يندرج ضمن قيد من قيود حرّية المعتقد، وهو توقّف هذه الحرّية عند الحدّ الذي تنقلب فيه حرّية الاعتقاد تصرّفا كيديا،فالرّدّة عن المعتقد الإسلامي بعد اعتناقه هي من الناحية النظرية مظنّة تصرّف كيدي، إذ من أقوى الأساليب في الكيد للمعتقد الإسلامي والتخذيل عنه أن يعتنق الإنسان هذا المعتقد ثمّ بعد فترة يتركه ليعود إلى معتقد آخر، إذ دلالة ذلك أنّ هذا المعتقد الذي وقع تبنّيه جُرّب بالتطبيق الفعلي فتبيّن أنّه لا تستقيم به الحياة، ويكون الأمر أفتك في الكيد، وأبلغ في إحداث الأثر السلبي حينما تكون الردّة جماعية، إذ من أمضى ما يُقاوم به دين من الأديان أن تعتنقه جموع كثيرة من الناس ثمّ ترتدّ عنه بصفة جماعية، وتلك طريقة معهودة في الكيد السياسي تستعمل لتخذيل المنظّمات والأحزاب والحكومات، وهي تحدث نفس الأثر أو أشدّ في الكيد الاعتقادي.
وعلى الصعيد الواقعي فإنّ الرّدّة عن الإسلام استعملت وسيلة كيدية بالغة التأثير، فقد جاء في تفسير الرازي أنّ طائفة من أهل الكتاب قصدوا تشكيك المسلمين، فكانوا يظهرون الإيمان تارة، والكفر أخرى، على ما أخبر الله تعالى عنهم أنّهم قالوا: } آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ { 6 وهو أيضا ما جاء في سيرة ابن هشام من أنه«قال عبد الله بن صيف، وعدي بن يزيد، والحارث بن عوف بعضهم لبعض: تعالوا نؤمن بما أنزل على محمد وأصحابه غدوة،ونكفر به عشية، حتى نلبس عليهم دينهم لعلهم يصنعون كما نصنع، ويرجعون عن دينه » 7 ، فهؤلاء إنّما كانت ردّتهم ردّةكيدية للتشكيك في الإسلام وصرف الناس عنه. وفي هذا الباب تندرج الرّدّة الكبرى التي حدثت في عهد أبي بكر، فقد كانت ردّة ذات بعد تآمري على الإسلام، ولم تكن مجرّد اختيار حرّ للمعتقد، ومن أجل ذلك قوبلت بما قوبلت به من الحزم في المقاومة.
والعقوبة القاسية التي فرضت في حقّ الردّة لعلّ من أهمّ مبرّراتها هذا البعد الكيدي من أبعادها، فالردّة في نطاق النظام الإسلامي شديدة الإغراء بالكيد، إذ هي حينما تكون كيدية فإنّها تكون بالغة التأثير على المجتمع الإسلامي، وذلك باعتبار أنّ المجتمع الإسلامي أُقيمت كلّ الحياة فيه على أساس ديني، فالكيد بالردّة يمكن أن يفضي إلى هدم المجتمع بأكمله، وذلك نظير مايُسمّى في قوانين الدولة الحديثة بجريمة الخيانة العظمى التي تغلّظ فيها العقوبات بماهي تهديد حقيقي لنظام المجتمع بأكمله. وأمّا المجتمعات التي لا تُقام فيها الحياة على أساس ديني وإنّما الدين فيها شأن فردي، فإنّ الردّة فيها لا تغري بالكيد، إذ تأثيرها يكاد لا يتعدّى حدود المرتدّ في حياته الفردية الخاصّة.وربما يكون من الشواهد على ذلك أنّ الردة إذا كانت مستترة في ضمير المرتدّ دون أن تظهر في أقواله وأفعاله فإنها لا ينطبق عليها العقاب حتى وإن عُلمت حقيقتها علم اليقين.
ولعلّ هذا الملحظ هو ما ذهب ببعض الباحثين من المسلمين إلى الميل بحكم الردّة نحو أن يكون حكما تعزيريا يُترك فيه تحديد العقوبة إلى وليّ الأمر بحسب ما يقدّر في شأن المرتدّ من أنّ ردّته كيدية أو غير كيدية ليكون العقاب على حسب ذلك في الشدّة، مستدلّين بأنّ النبي صلّى الله عليه وسلّمكان حكمه في أحوال المرتدّين مختلفا بالتخفيف والتشديد بين واحد وآخر، ومستدلّين أيضا بذلك الحوار الواسع الذي جرى بين الخليفة أبي بكر وبين الصحابة في شأن قتال المرتدّين، فهو حواراجتهادي لتقدير الحكم في شأن هذه الردّة. وبناء على ذلك فإنّ عقوبة المرتدّ ليست عقوبة على تغييرالمرتدّ لدينه، وإنّما هي عقوبة على ذلك البعد الكيدي في الردّة، وهي بذلك تمثّل خطّا مانعا من الحرّية في المعتقد8.
4 ـ ضمانات الحرية الدينية
إذا كان من المهمّ أن يقع التشريع للحريةالدينية باعتبار ذلك تأسيسا لهذه الحرّية حتى تكون مكتسبة صفة الشرعية الدينية،فإنّه من المهمّ أيضا أن تحاط بضمانات تضمن لها السيرورة الفعلية في المجتمع،وتحول دون إهدارها واقعا بأيّ سبب من الأسباب وأيّ تأويل من التآويل مهما يكن لها من صفة شرعية نظرية، فالمبادئ النظرية مهما تكن عليه من حقّ في ذاتها فإنها كثيراما يصيبها الانتكاس في الواقع حينما لا تتوفّر لها ضمانات التطبيق الفعلي؛ ولذلك فقد أحاط التشريع الإسلامي الحرية الدينية بجملة من الضمانات التي تضمن إلى حدّكبير أيلولتها إلى الممارسة الفعلية، وهي ضمانات متنوّعة: منهجية وعقدية وقانونية.
أ ـ الضمانات المنهجية
في بعض الأحوال يصبح الإنسان توّاقا إلى أن يكون حرّا في معتقده، ويغدو ساعيا في واقع أمره إلى أن يكون كذلك، ولكنّه لايتحقّق له من ذلك شيء، فإذا هو في هذا الشّأن يتوهّم الحرّية ولكنه يعيش الاستبدادمن حيث لا يشعر في كثير من الأحيان، وما ذلك إلاّ لوجود خلل في الشروط المنهجيّةالتي تضمن له بالفعل ممارسة الحرّية في الاعتقاد؛ ولذلك فقد جاء في التشريعالإسلامي توجيه إلى امتلاك جملة من الشروط تمثل ضمانات لهذه الحرية أن تكون منزّلةفي الواقع ،بل قد اعتبرت بعض تلك الشروط محدّدا في القيمة الإيمانية للمعتقد كمابيّنّاه آنفا.
وفي نطاق التشريع الموجّه لضمانات هذهالحرّية جاء التوجيه القرآني آمرا بتحرير العقل من سلطان الأهواء والشهوات التي منشأنها أن تقيّد حركته الحرّة في التفكير، فيتّجه نحو اعتقاد ما تقتضيه هي لا مايقتضيه العقل بمبادئه المنطقيّة، فتُصادر إذن حرّية التفكير والاعتقاد وإن يكنبهذا السلطان الداخلي من ذات الإنسان. ومن ذلك ما جاء في القرآن الكريم من الإنكارالشديد على من اتّخذ من الهوى إلها يتّبع أوامره ونواهيه في حركته العقلية بمايلغي حرّيته في ذلك بصفة كاملة، وهو مقتضى قوله تعالى : } أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاَ {(الفرقان/43). ومن ذلك أيضا ما جاء من نهيمشدّد عن أن يكون لأهواء النفوس استبداد على العقل يفضي به إلى الخطإ في معتقده،وبالتالي إلى الجور في أحكامه، وهو ما يفيده قوله تعالى: } وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى {( المائدة/8).
ومن ذلك التوجيه المنهجي أيضا ما جاء فيالقرآن الكريم من إنكار شديد على أولئك الذين سلّطوا على أنفسهم سلطانا خارجيا يتّبعون ما يُريهم من المعتقدات، فيفقدون بذلك حرّيتهم في التفكير، ويفقدونبالتالي حرّيتهم في الاعتقاد جرّاء هذا السلطان الخارجي الذي حكّموه في عقولهم.وقد يكون ذلك السلطان متمثّلا في الآباء والأجداد، كما قد يكون متمثّلا في الكهنةورجال الدين، أو كلّ من يُمكّن من النفوس فيسطو عليها. ومن ذلك ما جاء في قولهتعالى :} إِنَّاوَجَدْنَـــا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ {(الزخرف/22)،وما جاء في قوله تعالى:} اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ {( التوبة/31)، فكلّ منأولئك وهؤلاء أُنكر عليهم تسليمهم عقولَهم لسلطان خارجي يملي عليها ما ينبغي من معتقدات بحسب ما يراه، بديلا من أن تكون هي بذاتها محصّلة لمعتقداتها جرّاء حرّيةالتفكير التي تنتهي بحرّية المعتقد.
إنّ هذه الضمانات المنهجية التي تضمن حرّيةالتفكير والمعتقد بتحريرها العقل من السلطان الداخلي والخارجي الذي يصادر تلك الحرّية وردت في هذه التوجيهات على أنّها إرشاد عامّ للإنسان قبل أن يتبنّى أيّمعتقد من المعتقدات، وبعد أن يعتنق معتقدا مّا منها، فهي تضمن إذا الحرّية فيالابتداء والحرّية من أجل المراجعة والتصحيح، وإذا كان الأمر بتحصيل هذه الضمانات سيق في مساق أنّها إذا ما حصلت على الوجه المطلوب لا يمكن أن يفضي التفكير المتحرّر بها إلاّ إلى المعتقد الحقّ، فإنّها تظلّ قواعد عامّة تضمن الحرّية في التفكير و المعتقد.
وما أكثر ما نرى اليوم بالرغم من الادّعاءالعريض للحرية الدينية من هدر لهذه الضمانات المنهجية، فإذا الانغلاق المذهبي،والسطوة الإعلامية، والغواية الدعائيّة المختلفة الألوان تسلب العقول حرّيتها الفكرية فتنتهي إلى معتقدات مفروضة فرضا من حيث لا يشعر صاحبها في كثير من الأحيان، إنّها إذن أزمة منهجية عالجتها تعاليم الدين بما شرّعت من هذه التوجيهات الملزمة إلزاما دينيا.
ب ـ الضمانات الجزائيّة
إنّ حرّية التفكير والاعتقاد لم ترسل فيالتعاليم الإسلامية إرسالا في تحمّلها، إن شاء الإنسان مارسها باعتبارها حقّا منحقوقه، وإن شاء تنازل عنها على ذات الاعتبار، دون تبعة في هذا وذاك، بل قد ضُمّنتمعنى الوجوب إضافة إلى معنى كونها حقّا، فأصبحت حقّا وواجبا في نفس الآن، واكتسبتبذلك معنى المسؤولية التي تستلزم تحمّل التبعة الجزائيّة على ما تمّ في شأنها منتحمّل لها أو تخلّ عنها. ولا شكّ أنّ المبادئ والأفكار يختلف الأمر في شأنها منحيث تحمّلها التطبيقي بين ما إذا كانت تحمل معنى المسؤولية المتبوعة بالجزاء، وبينما إذا كانت مرسلة عفوا من ذلك، إذ المسؤولية الجزائية تكون إحدى أكبر الضمانات فيصيرورتها إلى الممارسة الفعلية.
وفي الإسلام لمّا شُرّعت حرّية الاعتقادفإنّها جُعلت مستتبعة بالمسؤولية عنها من حيث ما يفضي إليه تحمّلها أو عدمه مننتائج، فإذا ما مارس الإنسان حرّية التفكير من أجل الاعتقاد على الوجه الصحيح،وبذل الوسع في ذلك فإنّه سينتهي إلى ما يكون له به جزاء الأجر، وإذا ما أخلّ بذلك،ونصّب سلطانا على عقله من نوازعه الداخلية أهواءً وشهواتٍ، أو من مستبدّين خارجهآباء وأجدادا ورهبانا وكهّانا ووسائلَ إعلام وأبواقَ غواية فإنّه يتحمّل مسؤوليةما ينتهي إليه من معتقدات جزاء عقابا.
وليس للإنسان عذر حينما يتخلّى عن حرّيته فيالتفكير والمعتقد بأنّ ذلك كان بسبب تعرّضه للتسلّط والإغواء؛ ذلك لأنّه مُكّن منالحرّية تمكينا فطريا وتمكينا شرعيا فأباها وعرّض نفسه باختياره للتسلّط، فعليه أنيتحمّل مسؤولية تفريطه في حرّيّة التفكير وما تفضي إليه من حرّية المعتقد، وقد وردهذا المعنى في قوله تعالى واصفا مجادلة المفرّطين في حرّيتهم مع من مكّنوهم منالتسلّط على أنفسهم:}( وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم { (إبراهيم/22)، فهؤلاءالذين مكّنوا الشيطان ومن في حكمه من عقولهم مصادرة لحرّيتهم ليس لهم عذر في ذلكمن تسلّطهم عليهم؛ وذلك لأنّهم ليس لهم عليهم سلطان قاهر، بل قدكانوا ممكّنين منتلك الحرّيّة، وإذن فإنّهم يتحمّلون المسؤولية على ممارسة حرّية التفكير ومايتبعها من معتقد وعلى التفريط فيها، وتحميل هذه المسؤولية وما يترتّب على ذلك منالجزاء هو أحد أقوى الضمانات للممارسة الفعلية للحرّية، وذلك ما أشار إليه ابن عاشور في شرحه للآية الآنفة إذ يقول:« وأخبر الله بها الناس استقصاء في الإبلاغ ليحيط الناس علما بكلّ ما سيحلّ بهم، وإيقاظا لهم ليتأمّلوا الحقائق الخفيّة فتصبح يّنة واضحة»9.
ج ـ الضمانات القانونية
قد تكون حرّية الرّأي والمعتقد أمرا هيّناحينما يتعلّق الأمر فيها بشأن الفرد من حيث تحمّله للمسؤولية الجزائيّة فيه، ومنحيث الضمانات المنهجية التي تضمن له الممارسة الفعلية لهذا الحقّ والواجب في ذات الآن، ولكن حينما يُنظر إلى هذه الحرّية في بعدها الاجتماعي وهو جوهرها فإنّ الأمرفيها يصبح أكثر تعقيدا، إذ قد تتوفّر الشروط الضامنة لممارستها بالنظر إلى ذات الفرد، ولكنّ الهيئة الاجتماعية تحول دون ذلك بشكل أو آخر من أشكال الحيلولة، فإذاهذه الحرّية لا تبلغ مقاصدها من خلال التفاعل الاجتماعي، فتفقد الشطر الكبير منقيمتها حتى وإن تحقّقت في المستوى الفردي، إذ حرّية التفكير والمعتقد مبنيّة في جوهرها على المعنى الاجتماعي كما مرّ بيانه؛ ولذلك فقد جاء التشريع الإسلامي يولي أهمّية بالغة للبعد الاجتماعي في الحرية الدينية، ويحيطها من أجل ذلك بضمانات قانونية من الأحكام الشرعية تضمن صيرورتها الاجتماعية فتحقّق مقاصدها الأساسية.
ومن تلك الضمانات منع التفتيش عمّا في القلوبمن معتقد ليجري على أساسه التعامل القانوني والاجتماعي مع أصحابها، والأخذ في ذلك بظاهر ما يصرّح به صاحب المعتقد بقطع النظر عمّا يضمره في حقيقته حتّى وإن كانت تلك الحقيقة معلومة بطرق أخرى، وقد كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يعلم أنّ بعضا ممّن كانوا حوله في المدينة يظهرون إيمانهم به وتأييدهم له وهم في حقيقتهم مايزالون على معتقداتهم الشركية، ولكنّه كان يعاملهم على أساس ما يعلنون من معتقدهم،ويرفض الإيقاع بهم كما أشار عليه بعض الخلّص من أصحابه. كما أنّه صلّى الله عليه وسلّم كان شديد التقريع لأحدأصحابه حينما تمادى في إحدى المعارك في قتل رجل أعلن إيمانه برفع الشهادة متعلّلا بأنّ إعلانه ليس إلاّ بغية النجاة10. ولنا أن نقارن في هذاالشأن بما وقع في الأندلس عند سقوطها، إذ أُكره المسلمون فيها على التنصّر، وسُلكمعهم مسلك التفتيش عمّا في القلوب دون اكتفاء بظاهر تصاريحهم، فلم يكن مكفولا لهم هذا الحقّ القانوني الذي يضمن لهم حرّية المعتقد متمثّلا في المعاملة بحسب التصريح كما هو الشأن في التشريع الإسلامي.
ومن تلك الضمانات القانونية كفالة الحقّ فيإظهار المعتقد والتعبير عنه، قولا بالشرح والبيان، وفعلا بممارسة العبادات و الشعائر، ففي المجتمع المسلم يُكفل لكلّ صاحب دين أن يُعبّر عن دينه بالشرح والبيان، وأن يُعبّر عنه بإقامة المعابد والشعارات والرموز، وبممارسة العبادات والطقوس، وليس لأحد أن يمنعه من ذلك بما قد يلجئه إلى جحد دينه أو تبديله في ضرب من الإكراه المصادر لحرّية المعتقد. ومن البيّن أنّ كفالة هذا الحقّ في إظهارالمعتقد تضمن ممارسة الحرّية الدينية بما تشيع من اطمئنان إلى نتائج مستلزماتهاالقولية والسلوكية، والتطبيقات العملية لهذا الضرب من الضمانات القانونية في تاريخالمجتمع الإسلامي أمر معلوم لا يحتاج إلى برهان.
وممّا يُلحق بهذا الضمان القانوني وينتهي بهإلى كماله ما كُفل لمن يعيش في المجتمع الإسلامي من حقّ في الدفاع عن معتقده، وفيالاستدلال على صحّته، وفي الدعوة إليه، وفي نقد ما يخالفه من المعتقدات وإن يكن المعتقد الإسلامي نفسه. لقد جاءت في القرآن الكريم محاورات كثيرة يُدلي فيها أهلا لأديان بآرائهم في معتقداتهم، وينافحون عنها، ويجادلون المخالفين لهم فيها، بلوينتقدون ما هو معارض لها من معتقدات إسلامية فلا يتعرّضون بسبب ذلك إلى إكراه مادّي أو معنويّ.
ومن ذلك قول اليهود وهم يعيشون في المجتمع الإسلامي بالمدينة في سياق تعريضهم بالمعتقد الذي جاء يبشّر به النبيّ r في شأن الله تعالى : } وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ {( المائدة/64)، ولم يكن الردّ عليهم بأكثر من تأنيبهم وتسفيه مقالتهم بالرغم من التطاول الذي يحمله انتقادهم. وقد جرى المجتمع الإسلامي في عهود ازدهاره على أن يكفل لغير المسلمين فيه الحقّ في عرض معتقداتهموالدفاع عنها ونقد المعتقدات الإسلامية، ولا أدلّ على ذلك ممّا كانت تحفل به مجالسالعلم وحلقات الدرس والمنتديات العامّة من المناظرات العلمية التي يشترك فيها أهلا لأديان فيعرضون فيها معتقداتهم وينقدون فيها المعتقدات الإسلامية، وما كانت تحفلبه المؤلّفات كتبا ورسائل ومدوّنات من ذلك، وقد عدّد ابن النديم أفرادا من أولئك المجادلين المنتقدين للمعتقدات الإسلامية، وقال فيهم: «لهؤلاء كتب مصنّفة في نصرةالاثنين ومذاهب أهلها، وقد نقضوا كتبا كثيرة صنّفها المتكلّمون في ذلك»11.
وإذا كانت قد أتت عصور على المجتمع الإسلامي ربّما قُيّد فيها هذا الحقّ في إظهار المعتقدات والدعوة إليها بأسباب وجيهة أحيانا و غير وجيهة أحيانا أخرى فإنّ أصل هذا الضمان من ضمانات ممارسة الحرّية الاعتقادية يبقى أمرا مطلوبا في كلّ زمان لأنّه أصل شرعي مبدئيّ، فتكون المطالبة به، والسعي في تحقيقه من المقتضيات الاجتماعية للتديّن، وهو ما أكّده في العصر الحديث جملة من فقهاء الدستور الإسلامي مثل الإمام المودودي الذي يقول في هذا الشأن:" سيكون لهم [ أي غير المسلمين في المجتمع الإسلامي] الحقّ في انتقاد الدين الإسلامي مثلما للمسلمين الحقّ في نقد مذاهبهم ونحله وسيكون لهم الحرّية كاملة في مدح نحلهم "12.
ومن الضمانات القانونية لممارسة حرّيةالمعتقد الحقّ في المساواة بين الطوائف المكوّنة للمجتمع الإسلامي على اختلاف معتقداتها، إنّها مساواة في الحقوق والواجبات، إلاّ في حقّ الترشّح لرئاسة الدولة،فإنّه باعتبار خصوصية هذا المنصب الذي من مهامّه رعاية الدين الذي يتديّن بهغالبية المجتمع فإنّه يُستثنى فيه أصحاب المعتقدات غير الإسلامية، ويكاد تاريخالدول قديمها وحديثها لا يعرف دولة لا يتضمّن دستورها قيودا يخرج بها من هذا الحقّ بعض الأفراد أو الطوائف المكوّنة لمجتمعاتها.
وأمّا ما يُثار أحيانا من أنّ المجتمع الإسلامي تُفرض فيه الجزية على أصحاب المعتقدات غير الإسلامية، وما يعدّ به ذلك ضربا من الحيف المخلّ بالحرية الدينية بسبب المعتقد، فتفسيره أنّ الجزية إنّما هوواجب مالي فُرض على غير المسلمين مقابل إعفائهم من واجب الزكاة التي هي عبادة لا يمكن أن تُفرض على غير المسلمين، وكذلك إعفائهم من الواجب العسكري في الدفاع عن الدولة، فإذا ما تحمّلوا واجب الدفاع سقط عنهم ذلك الواجب المالي، فليس هو إذن بحيف اجتماعي بسبب المعتقد13.
إنّ هذه الضمانات القانونية بمفهومها الشرعيلمن شأنها حينما تُصان دستوريا وواقعيا أن تجعل من ممارسة حرّية الحرية الدينيةأمرا واقعا، إذ حينما يكون الإنسان آمنا في إظهاره لمعتقده، وفي دفاعه عنه ودعوتهإليه، وفي حصوله على حقوقه بالسويّة مع غيره من أهل المعتقدات الذين يعيش معهم،فإنّ ذلك كلّه من شأنه أن يكون له دافعا لممارسة حرّيته في التفكير والاعتقادوالممارسة الدينية.
وفي المجتمع الإسلامي زمن قوّته وازدهارهمصداق لذلك، إذ شهد من الممارسة الواسعة لهذه الحرّية ما قامت به سوق حواريةثقافية واجتماعية نشيطة، أثمرت ذلك الثراء الفكري والوئام الاجتماعي المشهودين.وإذا كان قد جرى الواقع في المجتمع الإسلامي أحيانا على غير هذا السياق، أو قدأفرزت الاجتهادات في بعض الأحيان آراء غير موفّقة في هذا الشأن، فإنّ العبرة تكونبالأصول، وبما جرى عليه غالب الأمر بحسب تلك الأصول.
5 ـ ضوابط الحريةالدينية
ليس من حرية في أيّ مجال من مجالات الحياةيمكن أن تكون حرية مطلقة؛ ذلك لأنها حينما تكون كذلك فإنها تنتهي إلى أن تعود علىنفسها بالنقض، لأن حرية أفراد أو فئات أو جماعات قد تكون مناقضة لحرية آخرين، فلوأُرسلت على الإطلاق فإنها سوف تعصف بها، ويؤول الأمر إلى نقض الحرية لنفسها؛ ولذلكفإن الحرية عامة والحرية الدينية من بينها لا بدّ أن تُضبط بضوابط وتقيّد بقيود منشأنها أن تحافظ بها على نفسها، وأن تحول دون الوقوع في الانتقاض، إلا أنّ تلكالضوابط ينبغي أن لا تبلغ من التضييق درجة تنتهي بالحرية إلى الإهدار، فهي إذنمعادلة دقيقة نقدّر أن الشريعة الإسلامية جاء فيها بميزان دقيق.
ولو كانت الحرية الدينية شأنا شخصيا تقف آثاره عند حدّ الفرد المعنيّ بها لما احتاج الأمر فيها إلى ضوابط وحدود، إذ يمكن للفرد حينئذ أن يفكّر كما يشاء ويعتقد ما يشاء ليبقى تأثير ذلك مقتصرا على ذاتهفيتحمّل هو مسؤوليته، ولكن لمّا كانت هذه الحرّية ذات أبعاد اجتماعية، بل إنّها لاتكتمل حقيقتها إلاّ بامتدادها في تلك الأبعاد من مثل إظهار المعتقد والدفاع عنهوالدعوة إليه كما بيّناه سابقا، فإنّ الضوابط والحدود حينئذ تصبح أمرا مهمّاوضروريا شأن كلّ ما هو ذو بعد اجتماعي من مناشط الإنسان.
ولعلّ هذه الحدود والضوابط المتعلّقة بالحريةالدينية، والتي يقتضيها بعدها الاجتماعي هي من أدقّ ما تنطوي عليه هذه القضية منالعناصر، إذ هي إذا لم تقم على معادلة دقيقة بين ما يحفظ حقيقة الحرّية وجوهرهاوبين ما يضمن بلوغها أهدافها، فإنّها قد يؤول الأمر فيها إلى ما يهدرها، إمّا بالتقييد الذي ينقض حقيقتها، وإمّا بالفوضى التي تعطّل مفعولها، وقد وقع من ذلكشيء كثير في التاريخ بما فيه تاريخ المجتمع الإسلامي نفسه، إن على مستوى التأصيلالنظري، وإن على مستوى الواقع العملي. ولكنّ المتأمّل في تلك الحدود والضوابط كماأصّلتها التعاليم الإسلامية، وكما جرى عليه الأمر في المجتمع الإسلامي حقبا طويلةمن الزمن يجد أنّها قُدّرت على معادلة دقيقة تتفادى ذلك المصير الذي تنتهي إليهالحرّية بالقيود المتعسّفة أو بالاضطراب والفوضى. ولعلّ من أهمّ تلك الحدودوالضوابط ما يلي:
أ ـ منع الغواية
ومعنى ذلك ألاّ تكون حرّية التفكير والاعتقادفيما تنتهي إليه من إظهار للمعتقد ودفاع عنه ودعوة إليه سالكة مسلك التغرير بمنيتوجّه إليهم الخطاب، وذلك بمثل أن يكون ذلك الخطاب مستعملا في بيان موضوعه وفيالدعوة إليه والإقناع به أدوات خارجة عن ذات ذلك الموضوع ممّا يتضمّنه من أفكاروممّا يسنده من حجج قصدَ أن تكون تلك الأدوات الخارجة مسوّغا لاعتناق المعتقدالمبيّن المدعوّ إليه، فيكون ذلك المعتقد إذن قد رُوّج بين الناس وأصبح معتقدا لهملا بمقتضى قوّته الذاتية وإنّما بمقتضى عوامل خارجية قامت مقام المغرِّراتالمضلّلة. ولهذه الغواية التي تقف حرّية المعتقد عند حدودها صور متعدّدة متجدّدة.
فمنها الإغواء بأن يكون الخطاب مصحوبابمغريات مادّية من تقديم أموال أو تحقيق شهوات فيما يشبه المقايضة متمثّلة فياعتناق المعتقد موضوع الخطاب من قِبل المدعوّين إليه مقابل تقديم تلك المغريات المادّية إليهموليس اقتناعا منهم به في ذاته لما يتضمّنه من أفكار وما يسنده من حجج. إنّ هذاالصنيع هو حدّ تقف دونه الحرية الدينية لما يتضمّنه من تزييف هو ضرب من الإكراهالنفسي، إذ تُستغلّ فيه الحاجة إلى إشباعات مادّية لتكون طريقا لنشر المعتقد فيمايشبه الابتزاز الذي هو ضرب من الإضلال والتغرير. ومن الإشارات القرآنية في هذاالشأن قوله تعالى: } ادْعُ إِلِىسَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ {(النحل/125)، وهو مايومئ إلى أنّ الدعوة إلى المعتقدات بغير ذلك من أساليب التغرير أمر منكر تقف دونهحرّية الدعوة، وذلك ما قرّره الرازي في قوله:« اعلم أنّ الدعوة إلى المذهب والمقالة لا بدّ وأن تكونمبنية على حجّة وبيّنة»14.
ومنها إغواء الضعفاء من الأمّيين والبسطاء،والقصّر من الأحداث وغيرهم، وذلك بأن يُفصل هؤلاء عن محيطهم الأسري أو الاجتماعي،ويُركن بهم إلى خلاء، فيُستغلّ ضعفهم وقصورهم، ويمارس عليهم خطاب لا تكون لهم قدرةعلى تبيّن محتواه تبيّنا واعيا، فإذا هم يُعبّأون بمعتقدات يُلقّنونها تلقينا فيمايُشبه المخادعة التي تنتفي فيها قدرتهم على تمحيص ما يُلقّنون والقرار بقبوله أوردّه، فيكون قَبولهم للمعتقدات التي يتضمّنها الخطاب حاصلا لديهم بضرب من الإكراه،وهو المبرّر لأن يكون هذا الإغواء حدّا تقف دونه الحرية الدينية.
وممّا يدخل ضمن هذا الإغواء ما نراه اليومحاصلا في الإعلام من برامج تتّجه للأطفال، وتخاطبهم في بعض المضامين الاعتقاديةبضروب من الإيحاءات من شأنها أن ترسّخ تلك المفاهيم في أذهانهم بطريقة تمرّ بهاإليهم دون قدرة منهم على التمييز بينها والحكم عليها، بل هي طريقة تصبح بها تلكالمفاهيم غير مقدور منهم على مراجعتها حتى عندما ترشد عقولهم، وتبلغ درجة القدرةعلى التمييز والحكم.
وممّا يشبه هذا أيضا ما يمارسه الإعلام اليوممن خطاب يتّجه به إلى العامّة من الناس، ويكون حاملا لمعان عقدية بصفة مباشرة أوغير مباشرة، يمرّرها إلى عقولهم بطرق شتّى تلتقي كلّها عند معنى من التغرير بهؤلاءالمخاطَبين الذين لا يملكون إزاء هذا الخطاب إمكانية التمييز بين ما هو حقّ فيهوما هو باطل، وذلك لقوّة ما يخالطه من التزيين والتمويه، ولقصور الكثير من سامعيهعن إدراك الحقيقة فيه وراء ما خالطه من تزيين وتمويه، إنّه يشبه أحيانا أن يكونضربا من غسل الأدمغة، حيث يُكرّس على السامعين تكرار مستمرّ لتلك المعاني ذات الأبعادالعقدية في صور مختلفة وبأساليب شتّى حتّى ترسخ في الأذهان على أنّها حقّ دون أنتتوفّر فرصة لتمرّ بميزان النقد الذي يعتمد الحجّة، وهو الشرط الذي يُسمح بهللحرّية في المعتقد من جهة إظهاره والدعوة إليه، فإذا ما اختلّ مثلما هو الأمر فيهذه الحال قُيّدت تلك الحرّية ووقفت عند ذلك الحدّ.
ب ـ تكافؤ الفرص
إذا كان يجوز في المجتمع الإسلامي من حيثالمبدأ لكلّ صاحب معتقد أن يعرض معتقده ويدعو إليه بمقتضى ما شُرّع من الحرّية فيذلك، فإنّ من القواعد التي تضبط تلك الحرّية أن يكون بين الفرقاء العارضينلمعتقداتهم والداعين إليها تكافؤ في فرص عرضهم ودعوتهم، بحيث يتساوى الجميع فيالإمكانيات الممكّنة من ذلك، من كان عارضا منهم ومن كان معترضا، ومن كان محتجّاومن كان ناقدا للحجج.
والمقصود بتكافؤ الفرص في هذا الشأن أنيتساوى جميع المشاركين فيه متوفّرين على ذات الشروط الممكّنة من المشاركة فيه ممّاهو داخل في مجال الشروط الخارجية التي لا تتعلّق بالإتقان في العرض أو البراعة فيالاحتجاج أو القدرة على الإقناع أو ما شابه ذلك ممّا هو عائد إلى قدرات مكتسبة منقِبل أصحاب المعتقدات بجهودهم.
وممّا يمكن أن يُعدّ من تلك الشروط التييُطلب في سبيل حرّية المعتقد أن تكون محلّ تكافؤ تمكّن الجميع من قدر مشترك منوسائل التبليغ التي تتوقّف على ترخيص من منابر إعلامية وتنظيمات ثقافية ومؤسّساتتعليمية حينما يكون ذلك موقوفا على الترخيص، وتمكّنهم من قدر مشترك من التمويل أوأسبابه حينما يكون ذلك متوقّفا على منح خارجي، وتمكّنهم من ظروف متشابهة تجري فيهامناشطهم المعرّفة بمعتقداتهم والداعية إليها.
وأمّا إذا وقع حيف بأيّ سبب من الأسباب فيتكافؤ هذه الفرص، بأن وُفّرت أو توفّرت للبعض دون البعض، فإنّ ذلك يكون خطّا تقفدونه الحرية الدينية في بعدها الدعوي؛ وذلك لما يفضي إليه هذا الحيف من خلل فيتدافع الآراء، ومن فرصة للمقارنة بينها، واختيار ما يقع به الاقتناع منها، فحينمايُتاح لصاحب معتقد مّا مالٌ يقوى به على الحركة من أجل عرض معتقده، وأبواق دعائيّةينشر بها ذلك المعتقد، وتنظيمات ينظّم من خلالها دعوته إليها، ولا يتوفّر من ذلكشيء لغيره من أصحاب المعتقدات المغايره، فإنّ ذلك يفضي إلى أنّ السامعين من أفرادالمجتمع لا يستمعون إلاّ إلى دعوة واحدة لعلوّ صوتها، ويُحرمون من الأصوات التيتنقدها وتعرض المخالف لها، وذلك ضرب من التغرير الذي تقف عنده هذه الحرية، إذ فيهتسويق للرّأي الواحد وحجب لغيره ممّا من شأنه أن يهدر إمكان التمييز والحكموالاختيار.
وممّا يجري به الحال اليوم أنّ بعض المعتقداتيُمكّن أصحابها دون غيرهم من الوسائل المختلفة لعرضها والإقناع بها، وقد يكون ذلكبتخطيط من شبكات عالمية تتّخذ لها وكلاء في مختلف البلاد بما فيها البلادالإسلامية، فتزوّدهم بقدرات مالية هائلة، وبوسائل إعلامية فاعلة، وتسهّل لهمأعمالهم بتسخير تنظيمات ومؤسّسات مختلفة، فإذا هم في نشر معتقداتهم يصولونويجولون، وغيرهم مغلول الأيادي لا يقدر من ذلك على شيء فيما يتعلّق بالتعريف بالمعتقد المخالف لما يدعون إليه من معتقدات، وذلك بفعل سدود وقيود وموانع مباشرة وغير مباشرة تقام في وجوههم إمّا بالمؤامرات والدسائس، أو بقوّة القانون، أو بالبطش والاستبداد، أو بالحرمان من وسائل العمل الدعوي.
وفي المجتمع المسلم ينبغي أن تتوفّر الفرص متكافئة لكلّ صاحب عقيدة كي يعرّف بعقيدته، إلاّ أن يكون تغريرا أو غواية بمظاهرهاالمختلفة، وحينئذ فإنّ التدافع بين الآراء والمعتقدات سيظهر به للناس ما هو حقّ منتلك المعتقدات وما هو باطل تبعا لقوّة الحجج التي تسندها، فيختارون منها ما يقنعهمبحرّية لا يصادرها احتكار في العرض أو حيف في فرص التبليغ، فإذا ما صُودرت بذلكتلك الحرّية في اختيار السامعين فإنّ حرّية المعتقد تمنع في حقّ العارضين لمعتقداتهم حتى ينعدل الوضع بتكافؤ الفرص، وحينما ينعدل ذلك الوضع يكون لكلٍّ فيالمجتمع الإسلامي حرّية المعتقد إظهارا واحتجاجا ودعوة كما مرّ بيانه15.
ج ـ الأمانة في العرض
إذا أراد صاحب معتقد في المجتمع الإسلامي أ نيعرّف بمعتقده ويدعو إليه ممارسة لحرّية المعتقد، فإنّه يكون بمقتضى تلك الحرّيةمطالبا بأن يعرض ذلك المعتقد بأمانة كما هو عليه في حقيقته التي استقرّ عليهاوعُرف بها، وذلك سواء من حيث بناؤه الفكري أو من حيث تاريخه أو من حيث آثاره، وإذاكان معتقدا جديدا فالأمانة تقتضي أن يكون ذلك بيّنا لدى السامعين، وأن يُعرض هذاالمعتقد الجديد بوضوح وتميّز، وأمّا إذا داخل عرض المعتقد المدعوّ إليه، والذي هومستقرّ في حقيقته معلوم بوثائقه وتاريخه تزييف وتلبيس، وإلحاق لما ليس منه به،وتجريد له من بعض ما فيه مع المحافظة على اسمه المعهود، فإنّ ذلك يكون خطّا تقفدونه حرّية المعتقد في بعدها الدعوي؛ وذلك لما تنتهي إليه هذه الحرية من تلبيسخادع يزيّن ما قد يكون قبيحا، ويستدرج السامعين بما قد يكون حقّا إلى ما هو باطل،وفي ذلك ضرب من الاعتداء على حرّيتهم في الاختيار، تلك الحرّية التي تقتضي أن يكون الاختيار واردا على ما هو معروض على حقيقته لا على ما هو معروض بتزييف، فإذا ماداخل العرضَ تزييف كان ذلك مبرّرا لمصادرة حرّية العارض ضمانا لحرّية السامعين.
وممّا يندرج تحت هذا القيد الضابط لحرّيةالمعتقد أنّ العارض لمعتقده على الناس إذا ما قام في سياق عرضه بنقد ما هو مخالفله من المعتقدات الأخرى ينبغي أن يكون أمينا في نقده، وذلك بأن يكون نقده مبنياعلى تصوير تلك المعتقدات كما هي عند أصحابها دون تحريف فيها بزيادة أو نقصان أوتغيير ممّا من شأنه أن يشوّه صورتها ويقبّحها عند المخاطَبين، فهذا التزييفالمقصود به التبشيع هو ممّا تقف عنده حرّية المعتقد كما وقفت عند التزييف من أجلالتحسين لما في كلّ منهما من هدر للاختيار الحرّ بين المعتقدات الذي لا يتحقّق إلاّ بإظهارها على حقيقتها سواء في سياق العرض أو في سياق النقد16.
وإذا كانت هذه الأمانة في عرض المعتقدات شرطافي حرّية المعتقد بصفة عامّة فإنّها تصير شرطا مغلّظا حينما يتعلّق الأمر بأمانةتربوية يعهد فيها المجتمع إلى من يعلّم الناشئة ما يرتضيه من دين، فإنّ هذاالمعلّم ينبغي عليه أن يؤدّي هذه الأمانة بالوقوف في تعليمه عند المعتقد الذيكُلّف بتعليمه كما هو عند من كلّفوه، فإذا ما انحرف به إلى ما يرتئيه هو منتأويلات خاصّة به في ذلك المعتقد، أو انحرف به إلى ما يغيّر حقيقته كما هي عندأصحابه بأيّ صورة من صور التغيير، فإنّ ذلك تكون به خيانة الأمانة مضاعفة، إذ قدجمعت بين خيانة الأمانة العلمية وخيانة أمانة التكليف، فيكون إذن الخطّ الحائل دونحرّية المعتقد فيها أشدّ وأقوى لما في ذلك من اعتداء مضاعف على حرّية الاختيار.
وممّا نشهده اليوم من مشاهد تطبيقية لبعض هذهالصور المخلّة بأمانة العرض ما يتصدّى له بعض المدّعين لعرض المعتقد الإسلامي علىالناس من عامّتهم، أو على النّاشئة في إطار التربية والتعليم، فإذا بذلك العرض لايحمل من المعتقد الإسلامي إلاّ الاسم، وأمّا المحتوى فهو لا يمتّ بصلة إلى ذلكالمعتقد كما جاءت تعرضه مصادره، وكما استقرّ في أسسه الكبرى عند معتنقيه طيلة تاريخه،وإنّما هو تأويلات تقلب حقائقه رأسا على عقب، وتجعل من صفة الإسلام صفة غير منطبقةعليه، ويتم ذلك في أحيان كثيرة تحت عنوان الحرية الدينية إذ الدين ليس ملكا لأحد و لكل أن يبدئ رأيه فيه وأن يؤوّله كما يراه.
إنّ مثل هذه المشاهد لا يمكن أن تستصحب حرّيةالمعتقد لما تنطوي عليه من تزييف وتغرير بانتحال صفة الإسلام وإطلاقها على ما هوليس بإسلام، ناهيك إذا كان ذلك في إطار التربية والتعليم. ولو عرض هؤلاء العارضونمعتقدهم ودعوا إليه تحت اسم آخر غير اسم الإسلام وفي غير إطار التعليم لكان ذلكأدعى إلى استصحاب الحرّية في عرضهم ودعوتهم إذا ما تحقّقت الشروط الأخرى لتلكالحرّية17.
د ـ احترامالمشاعر الدينية
من الحدود الأساسية لحرّية المعتقد احترامالمشاعر الدينية، فمن العلوم أنّ للمعتقدات في النفوس حرمة لا تدانيها حرمة، حتّىإنّ أصحاب المعتقدات يضحّون بأنفسهم في سبيل معتقداتهم. وإذا كانت حرّية المعتقدتتحمّل أن يقع تناول معتقدات الآخرين بالنقد الذي يهدف إلى بيان مكامن الضعف فيها،وبيان ما في حججها من تهافت، وما ينتهي إليه اعتناقها من بوار، وغير ذلك مما هوداخل ضمن الاحتجاج العقلي، فإنّها لا تتحمّل بحال أن يقع تناول تلك المعتقدات بمايجرح حرمتها في نفوس أصحابها خارج نطاق الحجاج العقلي، فتتأذّى تلك النفوس جرّاءذلك، لما ينال معتقداتها من مهانة.
وما يجرح المشاعر الدينية أصناف منالتصرّفات، فمنها تناول المعتقدات بالتحقير والاستنقاص والشتيمة. ومنها تناولالرموز الدينية من أشخاص ومقدّسات مختلفة بالتشنيع المادّي والمعنوي سبابا وقذفاواتّهاما. ومنها الغمز واللمز والنبز في تلك الرموز بصفة مباشرة أو بصفة غيرمباشرة عن طريق القصّ الأدبي والروايات والتمثيليات والرسوم وما شابه ذلك، فهذهالتصرّفات كلّها من شأنها أن تجرح المشاعر الدينية بما هي استهتار بالمقدّسات ونيلمنها بما لا تتحمّله النفوس المؤمنة بها لشدّة حرمتها فيها، وشدّة غيرتها عليها.
وإنّما تسمح حرّية المعتقد بالنقد ولا تسمحبما يجرح المشاعر لأنّ النقد فيه بيان لحقيقة المعتقدات في ذاتها قصد إظهار مافيها من حقّ أو باطل ليتّخذ السامع منها موقفا بناء على ما يظهر له من ذلك الحقّوالباطل، فساحة التدافع في هذه الحال هي الحجّة العقلية الواردة على مادّة موضوعيةمطروحة لنظر الجميع، وأمّا التحقير والشتيمة واللمز وما في حكمها فإنّها ليست واردة على المعتقد كمادّة موضوعية تتدافعها العقول بالحجّة، وإنّما هي واردة علىمشاعر المعتقدين للإيذاء والنكاية، وهو ما لا علاقة له بأن تُفسح للعقول فرصةالاختيار تبعا لما يُطرح من الحجج العقلية بالنقد الموضوعي، وإنّما هو باب عريض منأبواب الفتنة بين الناس، ليس من شأنه إلاّ أن يؤدّي إلى التهارج بينهم، فينفتح إذنباب واسع للاضطراب الاجتماعي، وهو المبرّر لأن يُقفل باب الحرّية دونه.
ومن الأصول الشرعية المقرّرة لهذا المبدإالمنظّم لحرّية الرّأي قوله تعالى : } وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَعَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ {( الأنعام/108)، فبعدالتشريع بالإباحة للمجادلة العقلية في شؤون المعتقدات بالحجّة العقلية معبّرا عنهابـ "التي هي أحسن " وهو تشريع لحرّية المعتقد، جاء هذا التشريع الضابطلتلك الحرّية بالحدود التي يكون فيها احترام المشاعر الدينية؛ ولذلك جاء هذا النهيعن أن يؤول الحوار في شأن المعتقدات إلى السباب الذي يجرح المشاعر ويفضي إلىالفتنة.
وهذا الأصل المنظّم لحرّية المعتقد فيالمجتمع الإسلامي هو أصل عامّ يستوي فيه أهل المعتقدات والأديان من المسلمينوغيرهم، فالحرّية في المجادلة بالحجّة في عرض المعتقد ونقد مخالفه حقّ للجميع،وتقف هذه الحرّية عند حدّ السباب والشتيمة بالنسبة للجميع أيضا، وهو ما أوضحه ابنعاشور في قوله:« وليس من السّبّ [ المنهيّ عنه ] إبطال ما يخالف الإسلام منعقائدهم [ أي غير المسلمين ] في مقام المجادلة، ولكنّ السّبّ أن نباشرهم في غيرمقام المناظرة بذلك، ونظير هذا ما قاله علماؤنا فيما يصدر من أهل الذمّة من سبّالله تعالى أو سبّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بأنّهم إن صدر منهم ما هو من أصولكفرهم فلا يُعدّ سبّا، وإن تجاوزوا ذلك عُدّ سبّا»18. وهذا ميزان حكيم في التفرقة بين ما هو مناظرة تبسط لهاالحرّية، وبين ما هو شتيمة جارحة تدخل دائرة الممنوع.
وبحسب هذا الميزان فإنّه ليس من باب المحاجّةالتي تُبسط لها حرّية المعتقد ما نجم عند بعض أهل الغرب بل وفي المجتمع الإسلاميأيضا منذ بعض السنوات من اعتداءات جارحة على بعض مقدّسات الإسلام ورموزه متمثّلةفي ضروب من الاستنقاص والتحقير والاتّهامات، وهو ما يسبّب أذى كبيرا لمشاعرالمسلمين، ويقال في تبريرها والدفاع عنها إنّها من باب الفنّ الذي هو غير ملزم بأنيعرض الحقيقة، وإنّما يجوز فيه الرمز واللمز. إنّ هذا الضرب من تناول المعتقداتبالعرض النقدي ليس إلاّ تعدّيا على المشاعر بما هو شتيمة وسباب وليس مجادلةومناظرة، وهو بذلك يخرج عن دائرة حرّية المعتقدات. وقد كان الحسّ الإسلامي العامّصادقا في موقفه من مثل هذه التصرّفات، فهذا الحسّ لم يثره ما جرت به أقلام كثيرةفي نقد الإسلام في مجال المناظرة التي تستعمل الحجج العقلية، إذ قوبل ذلك النقدبحجاج عقلي هادئ، ولكنّه لمّا اعتُدي على المشاعر الإسلامية بالشتيمة والسباب كانت له ثورة معلومة وردود فعل صارمة19.
هـ ـ منعالتصرّفات الكيدية
إذا كان الوقوف موقف النقد من المعتقداتالمخالفة أمرا تسمح به حرّية المعتقد كما بيّنّاه، فإنّ التصرّفات الكيدية إزاءتلك المعتقدات تُلحق بالتصرّفات الجارحة للمشاعر في وقوف تلك الحرّيةدونها؛ ذلك أنّ الكيد هو الاستدراج والمكر، فإذا كان صاحب عقيدة مّا في المجتمعالإسلامي يسلك في سبيل نشر عقيدته أساليب الاستدراج والمكر، أو كان يسلك ذلك إزاءالعقيدة المخالفة في سبيل صدّ الناس عنها، فإنّ تصرّفه ذلك لا يكون داخلا ضمن ماتسمح به حرّية المعتقد، إذ هو تصرّف لا ينصر المعتقد المعتَنق أو يهزم المعتقدالمخالَف من خلال بيان ما في هذا من قوّة وما في ذاك من ضعف من حيث الذات في كلّمنهما، وإنّما هو يقوم بذلك من خلال وسائل خارجية يُستدرج بها الناس على غرّةليسري بينهم المعتقَد المدعوّ إليه، أو ليتخلّوا عن معتقدهم المدعوّ إلى تركه،وذلك ضرب من التلبيس الذي تقف دونه حرّية المعتقد.
ومن الصور الظاهرة للتصرّفات الكيدية ما أشرناإليه سابقا من القصد إلى التحريف في عرض المعتقد من حيث بنيته الذاتية، وإظهارهعلى غير حقيقته التي يدّعيها لنفسه وتنطق بها مصادره، إمّا بما هو محسّن بغيةالنشر، أو بما هو مبشّع بغية الحسر، استدراجا في ذلك للسامعين كي يقبلوا على هذاويدبروا عن ذاك. وفي التأصيل لهذا المعنى جاء مثل قوله تعالى: } أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ {(البقرة/75)،فالتحريف من قِبل هذا الفريق للمعتقد المخالف لهم إنّما صدر منهم في سياق الكيدالمقصود به أن يُصرف عنه الناس المدعوّون إليه. ومن قرائن ذلك السياق الكيدي ما جاء عقب ذلك من قولهتعالى : } وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْقَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَرَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ { (البقرة/76)، فالتحريف من هذا الفريق إنّما هومندرج ضمن هذا السياق الكيدي « لضرب من الأغراض على ما بيّنه الله تعالى من بعد فيقوله تعالى: " واشتروا به ثمنا قليلا"» 20 .
وربّما يكون من الصور الكيدية التي تمتنع لأجلها حرّية المعتقد انتحال معتقد مّا من المعتقدات من أجل التصرّف باسمه تصرّفات مشينة من شأنها أن تصوّره في عيون الناس بصورة قبيحة بما يقترن في الأذهان من التطابق بين تلك التصرّفات وبين المعتقد المنتحَل الذي تصدر باسمه. إنّ هذاالانتحال بما هو تصرّف كيدي تنحسر دونه حرّية المعتقد، إذ هو آيل إلى ضرب من النقد للمعتقدات المخالفةنقدا تشويهيا بوسائل لا علاقة لها ببنيتها الذاتية من حيث إظهار ما في تلك البنيةمن ضعف أو قبح، وهو أسلوب لو شاع بين الناس في المجتمع لأفضى إلى اضطراب كبير،وإذا أفضت الحرّية إلى الاضطراب كان ذلك مؤذنا بتقييدها.
ولعلّ ممّا يؤصّل لهذا القيد من قيود حرّيةالمعتقد قوله تعالى : } لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا {(الأحزاب/60)، فهؤلاء الذين تستنكر الآية تصرّفهم هم أولئك النفر في المجتمع الإسلامي بالمدينة الذين انتحلوا الإسلامانتحالا كيديا، وجعلوا من موقعهم ذلك يخذلون الإسلام ويخذّلون المسلمين، ويرجفون بالأخبار الكاذبة والإشاعات الزائفة المتعلّقة بهذا الدين ومعتنقيه قصد صرف الناسعنه، وبثّ الاضطراب والفتنة في المجتمع. لقد كان بعض اليهود في المدينة يجادلون فيشأن المعتقد الذي جاء به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، نقدا له وانتصارا لمعتقدهم،ولم يكن ذلك سببا لمنعهم أو تهديدهم بالمنع، ولكن لمّا تصرّف بعض آخر منهم هذا التصرّف الكيديالمتمثّل في انتحال المعتقد الإسلامي نفاقا لغرض التخذيل،كان ذلك سببا في مصادرةحرّيتهم في الاعتقاد لما تفضي إليه تلك الحرّية لو أُتيحت من فساد واضطراب21.
إنّ هذه الضوابط المقيدة للحرية الدينية إنما هي ضوابط شرعت من أجل حماية هذه الحرية كي تؤدي إلى الهدف المقصود، وهو تمكين الناس من أن يختاروا دينهم عن بصيرة، وأن يمارسوا شعائرهم في اطمئنان، وأما إذا انفلتت الحرية الدينية من كل قيد فإنها سوف تؤدي إلى فوضى يغرر الناس فيها بعضهم ببعض، ويعتدي فيها البعض على مشاعر الآخرين، وتكون من ذلك فتنة اجتماعية كبيرة، منحيث إنّ الأديان ما جاءت إلا بما فيه خير الإنسان وسلامته وأمنه.
والله ولي التوفيق
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire