رغم توقع حدوثه منذ سنوات ومن تأكيدات أديس أبابا بعدم تأثيره على مصر،
أثار قرار إثيوبيا البدء في تحويل مجرى مياه النيل الأزرق تمهيدا لبناء سد
النهضة أو سد الألفية غضب الأوساط المصرية الشعبية التي تخشى تجفيف نهر
النيل، ذلك الينبوع الحيوي، وذلك على غرار المردود السلبي لسد أتاتورك في
تركيا على العراق وسوريا.
وتعود أزمة تحويل مجرى النيل إلى مايو
2010 عندما قررت 6 من دول منابع النهر التوقيع في مدينة عنتيبي الأوغندية
على معاهدة جديدة لاقتسام موارده، ومنحت القاهرة والخرطوم مهلة عاما واحدا
للانضمام إلى المعاهدة.
وتنص "اتفاقية عنتيبي" على أن التعاون بين دول مبادرة حوض النيل يعتمد على الاستخدام المنصف والمعقول للدول.
واتخذت الدول الأعضاء مؤخرا إجراءات التصديق عليها من برلماناتها، وبمجرد
سريانها تنتهي الحصص التاريخية لمصر والسودان وفقا لاتفاقيات 1929 و1959
التي بموجبهما تحصل مصر حتى الآن على 55.5 مليار متر مكعب من المياه سنويا،
والسودان على 18.5 مليار.
ووقعت على هذه الاتفاقية 6 دول هي
إثيوبيا وأوغندا وكينيا وتنزانيا ورواندا وبوروندي، بينما رفضت كل من مصر
والسودان والكونغو الديمقراطية الانضمام إليها. وفي مارس 2013، أعلنت دولة
جنوب السودان أنها ستنضم إلى الاتفاقية.
واعتبرت القاهرة
والخرطوم أن الاتفاقية "مخالفة لكل الاتفاقيات الدولية"، وأعلنت أنها
ستخاطب الدول المانحة للتنبيه على عدم قانونية تمويل أي مشروعات مائية،
سواء على مجري النيل أو منابعه وإقناعها بعدم تمويل المشروع الذي سيتكلف
نحو 4.8 مليار دولار أميركي، حسب رئيس الوزراء الإثيوبي الراحل مليس
زيناوي.
لكن إثيوبيا، وباقي دول اتفاقية عنتيبي، لم تعر احتجاجات
القاهرة والخرطوم اهتماما ومضت بخطى حثيثة، ودشنت في أول أبريل 2011 مشروع
"سد الألفية الكبير" أو "سد النهضة" لإنتاج الطاقة الكهرومائية بولاية بني
شنقول الإثيوبية القريبة من الحدود السودانية.
ومن المتوقع أن يحجز السد، المزمع الانتهاء منه نهاية مايو الجاري، خلفه نحو 63 مليار متر مكعب من المياه.
وبعد ثورة 25 يناير 2011،كانت قيادات شعبية مصرية قد طالبت بضرورة معالجة
هذا الملف الحيوي والتعامل معه بموضوعية بعيدا عن "التعالي الذي اتسمت به
طريقة تعامل حكومات الرئيس السابق حسني مبارك".
ومن ثم أرسلت مصر
في 29 أبريل 2011، وفد "الدبلوماسية الشعبية" المكون من قيادات سياسية
وحزبية ومن شباب الثورة وشخصيات عامة لمناقشة مشروع سد الألفية.
ومع
هذه المقدمات، بوغت المصريون بالقرار لصدوره بعد ساعات من زيارة الرئيس
المصري محمد مرسي لأديس أبابا التقى خلالها رئيس الوزراء الإثيوبي هايلى
ماريام ديسالن، على هامش مؤتمر القمة الإفريقية.
وإثر اللقاء أكدت
الدولتان "ضرورة مواصلة التنسيق بينهما في ملف مياه نهر النيل، بما يحقق
المصالح المشتركة للبلدين، واستنادا إلى التزام كل طرف بمبدأ عدم الإضرار
بمصالح الطرف الآخر".
وبتغيير مجرى النيل الأزرق، استبقت إثيوبيا نتائج التقرير المتوقع أن تقدمه اللجنة الثلاثية الدولية المكلفة بتقييم سد النهضة.
وكان عضو اللجنة الفنية الوطنية المصرية لدراسة سد النهضة علاء الظواهري،
صرح لوكالة "الأناضول" التركية قبل يومين بأن اللجنة ستوصي في تقريرها
بمزيد من الدراسات حول آثار تشغيل السد على حصتي مصر والسودان من مياه
النيل.
ويقول الظواهرى إن "الدراسات التي قدمها الجانب الإثيوبي
بشأن السد لم تكن كافية لإثبات عدم الضرر على مصر من بنائه"، وهو ما سيدفع
باللجنة الثلاثية إلى المطالبة بإجراء دراسات إضافية يقوم بها الخبراء
الدوليون في اللجنة، وعددهم 4 خبراء".
وتتكون اللجنة من 6 أعضاء
محليين، (اثنان من كل من مصر والسودان وإثيوبيا)، و4 خبراء دوليين في
مجالات هندسة السدود وتخطيط الموارد المائية، والأعمال الهيدرولوجية،
والبيئة، والتأثيرات الاجتماعية والاقتصادية للسدود.
وصرح المتحدث
باسم الرئاسة المصرية السفير عمر عامر أن قرار الحكومة الإثيوبية تغيير
"لن يكون له تأثير سلبي على كميات المياه التي تصل لمصر"، واعتبرها "إجراء
طبيعيا"، وقال إن هناك لجنة ثلاثية مشكلة من قبل مصر والسودان وإثيوبيا
لدراسة تأثيرات بناء سد النهضة والاضطلاع على ما سيتضمنه تقرير هذه اللجنة
لتحديد الإجراء الذى ستتخذه مصر.
كما دافع سفير مصر في إثيوبيا
محمد إدريس عن المشروع، وصرح لوفد إعلامي مصري في أديس أبابا أن سد النهضة
"أمر واقع، ومشروع جاري تنفيذه فعلا"، مشيرا إلى أن الحوار الدائر الآن بين
مصر وإثيوبيا يسعى ليكون المشروع مفيدا للبلدين، وليس حوارا بهدف وقف
مشروع بناء السد.
وتابع أنه "لا يمكن الحكم على السد دون صدور
تقرير اللجنة الفنية، موضحا أن قرارات اللجنة ليست ملزمة، بل هي لجنة من
خبراء لها وزن سياسي، ولا يمكن أن يضرب بتقريرها عرض الحائط، فهو تقرير له
قيمة علمية وفنية وسيؤخذ في الاعتبار".
وأشار إلى أنه بعد انتهاء
اللجنة من تقريرها سيعرض على المستوى السياسي لاتخاذ قرار بشأنه، وقال:
"التحدي هو كيفية التعامل السياسي مع تقرير اللجنة الثلاثية، ومصر حريصة
على التنمية في إثيوبيا طالما لن تضرها، ومستعدة لأن تكون شريكة لها في
مشاريع التنمية".
وأشار إلى أن مشروع السد بالنسبة للإثيوبيين "مشروع قومي على غرار السد العالي بالنسبة للمصريين".
وقال إدريس إن أجواء التعامل مع ملف السد تغيرت، حيث كان يتم في السابق
التعامل مع هذا الملف على خلفية علاقات سياسية متوترة، وتفاعل سلبي بين
الجانبين، في ظل وجود قطيعة على مستوى رأس الدولة منذ محاولة اغتيال مبارك
عام 1995، لكن الأجواء تغيرت بعد ثورة 25 يناير، وأصبح هناك تفاعل على
المستويين الرسمي والشعبي وزيارات متبادلة بين الجانبين.
وقال:
"من المضر اختزال العلاقات مع إفريقيا في المياه ومع إثيوبيا في السد، لأن
الأفارقة عندما وصل إليهم هذا الشعور تحركوا في اتجاه معاكس، والعلاقات
اليوم تغيرت وبدأت مصر تتجه نحو إفريقيا، لكن ينقصنا التنسيق، ووضع خطة حتى
تكون هذه المبادرات متواصلة وليست عابرة".
وحول تأثير السد على
مصر، قال الصحفي عطية عيسوي، الخبير في الشؤون الإفريقية، لـ"سكاي نيوز
عربية" إنه يجب على القاهرة "إقناع الحكومة الإثيوبية بإطالة فترة ملء
البحيرة التي ستتكون وراء سد النهضة".
"إذا تمكنا من إقناعهم بملء
البحيرة على 40 أو 30 عاما أو حتى 20 سنة، فإن ذلك سيقلل من الأضرار التي
ستصيب كلا من مصر والسودان، أما إذا صمموا على أن تملأ في غضون خمس أو سبع
سنوات فهذا يعني تجفيف ما بين 61 إلى 65 مليار متر مكعب كانت تصل إلى مصر
والسودان من إجمالي 85 مليارا"، حسب عيسوي.
وحذر عيسوي من القيام
بأي عمل عسكري أو تخريبي مصري ضد السد، مذكرا بمتانة العلاقات بين إثيوبيا
والقوى الدولية العظمى، خاصة الولايات المتحدة وبريطانيا، قائلا: "يجب أن
نعرف أن ذلك سيجر على مصر الكثير من المشاكل ويجب أن تدرك القاهرة أن الدول
العظمى تساند إثيوبيا وتستمع لها ولا تنصت لمصر".
وتعيد تطمينات
إثيوبيا إلى الأذهان، تلك التي قدمتها تركيا عند قيامها ببناء سد أتاتورك
على نهر الفرات، الذي أدى عند الانتهاء منه في 2005، إلى خلق ظروف كارثية
في كل من سوريا والعراق خلافا لما تعهدت به أنقرة.
وكانت تركيا قد
بدأت بناء سد أتاتورك في 1983، ضمن مشروع ضخم لبناء 15 سدا يجري حاليا
الإعداد لاستكمالها بتكلفة كلية مقدارها 33 مليار دولار، ضاربة عرض الحائط
بعشرات السنين من الاعتراضات العراقية والسورية.
وأدى السد إلى
حرمان سوريا من 40 % من حصتها من مياه نهر الفرات، بينما كان المردود على
العراق أكثر سوءا حيث لم يعد يحصل سوى على ثُمن حصته عام 1989.
ولم تفتح تركيا صنبور المياه إلا قليلا في عام 2009 على إثر مفاوضات بين
الدول الثلاث، اشتكت خلالها سوريا والعراق من أن "سد أتاتورك يخنق البلاد"،
خاصة بعد أن سادت حالة من الجفاف آنذاك.